بقلم: د. اريك روبرتس و كريستوفر تود
ترجمة: ابراهيم عبدالله العلو
” تكشف بعض البقايا المتحجرة الجديدة في وادي الفالق الافريقي دليلاً على أصل الزراعة أبطاله حشرات وليس بشر “
يستدعي التلفظ بكلمة النمل الابيض بالنسبة للمواطن العادي إلى الذهن تلك المخلوقات الضئيلة الحجم التي تلتهم الدعامات الخشبية في منزله ولكن هذا الربط السلبي يتجاهل حقيقة مفادها ان النمل الابيض من اهم مجموعات الحشرات من حيث التنوع البيولوجي والبيئي. فهو المسؤول عن تفتيت وتحلل 90% من الخشب الجاف وإعادة تدوير المغذيات في بعض الانظمة البيئية وتمت الاشادة مؤخراً بدوره في توليد التنوع الحيوي ونقاطه الساخنة في السهول العشبية الافريقية.
عثرنا (جامعة جيمس كوك في استراليا) على اكتشاف احفوري متحجر فائق الاهمية يشير إلى الاهمية التطورية لهذه المخلوقات ويقدم تواز مهم مع التطور البشري.
عمل فريقنا من علماء الجيولوجيا والحفريات خلال ال 15 عاماً الماضية في تنزانيا في جزء من نظام الفالق الافريقي الشرقي على توثيق أصل وتطور الفقاريات في افريقيا.
ركز هذا المشروع “مشروع فالق حوض روكوا ” في البداية على كشف احافير ديناصور جديدة ولكن سلسلة من الاكتشافات غير المتوقعة دفعت به في اتجاهات غريبة ورائعة.
ومن بين اهم النقاط الاكثر اشراقا لهذا العمل اكتشاف بقايا رسوبية متحجرة غير معروفة مسبقاً ساعدتنا في فهم أفضل لتوقيت وأصل نظام فالق شرق افريقيا نفسه.
وفي واحدة من هذه الوحدات التي ترجع إلى 25 مليون عام اكتشف فريقنا وفرة من المتحجرات الجديدة بما فيها أقدم مستحاثة لقرود وقرود العالم القديم في افريقيا.وفي العام الماضي عثر فريقنا على سلسلة جديدة من المتحجرات غير الاعتيادية التي قدمت لنا دليلاً قاطعاً على أصل الزراعة – أصل لم يتوقعه معظم البشر….
يعتقد عادة ان الزراعة نشاط بشري محض ولكن ما عثرنا عليه في هذه الصخور التي يزيد عمرها عن 25 مليون عام لم يكن ذا منشأ بشري أو متعلقاً بقرد شبيه بالإنسان ولكن من عمل النمل الابيض. والاحافير موضع السؤال هي ما نسميه عادة متحجرات ثانوية والتي تحفظ دليلاً على سلوك المخلوقات بدلاً من المخلوقات ذاتها .
عثرنا في جرف من الحجر الرملي المرفوع تكتونيا ً على بقايا أعشاش نمل أبيض بالغة القدم محفوظة بشكل أنيق.وهذا بحد ذاته لا يعتبر مفاجئاً لان أعشاش النمل الابيض المتحجرة شائعة نسبياً في الصخور التي يعود تاريخها إلى عصر الديناصورات المسمى الدهر الوسيط ولكن المفاجئ هو حفظ سلسلة من الغرف المتخصصة ذات بنى محصبة غريبة تشبه المعكرونة تماثل إلى حد كبير حدائق الفطر التي يبنيها النمل الابيض الزارع للفطر .
يعود السجل الاحفوري للنمل الأبيض الزارع للفطر إلى 7 مليون عام. وباستخدام مزيج من الطرائق التحليلية أكد فريقنا ان الاحافير كانت بالفعل حدائق فطر قديمة.
وعملنا مع المتخصصين في البيولوجيا التطورية والجزيئية لإعادة ضبط الساعة الجزيئية المستخدمة لتقدير زمن حدوث اول علاقة تكافلية بين الفطر والنمل الأبيض. وبمعنى اخر قدمت هذه الاحافير دليلاً قوياً يدعم الفرضية السابقة (التي سادت لفترة طويلة) أن أصل زراعة الفطر والعلاقة التكافلية بين النمل الابيض والفطر ظهرت أول مرة قبل 31 مليون عام في غابة بوسط أفريقيا.
ويتزامن هذا التاريخ مع الفتح الأولي للفالق الافريقي الشرقي والذي غير إلى حد كبير من الطبيعة الافريقية. فمثل ذلك التحول البيئي الدرامي والتحول الابتدائي من الغابات إلى السهول العشبية (السافانا) والمراعي قد يكون عاملاً حاسماً ادى إلى تطور زراعة الفطر لدى النمل الأبيض وبالتالي أصل الزراعة.
تاريخ الزراعة
حدث تطور الزراعة البشرية قبل 10 إلى 12000 عام مضى في الهلال الخصيب (منطقة الشرق الأوسط اليوم)خلال فترة تسمى ثورة العصر الحجري الحديث ( النيوليثيك ) وتلك هي المرة الاولى التي يبتعد فيها البشر عن اسلوب حياتهم البدوي و ينخرطوا بزراعة الارض المحيطة بهم بشكل مكثف وتدجين الحيوانات . ولطالما قيل ان هذا الفعل كان أحد أهم التطورات أهمية عبر التاريخ الانساني والذي ادى بدوره إلى تطورات ثقافية سريعة تلت هذه الفترة الزمنية.
وبالمثل سمح تطور الزراعة لدى بعض مجموعات الحشرات -على شاكلة التكافلية التبادلية مع الفطور – لها بشغل مواقع جديدة واصبحت من بين أكثر المجموعات نجاحاً في عالم الحشرات.
استنبطت ثلاثة مجموعات من الحشرات فقط التبادلية مع الفطور في حقل الزراعة وهي خنافس امبروسيا والنمل القاطع للأوراق والنمل الابيض.
وفي حالة النمل الأبيض والتي نعتقد انه بنى حدائق الفطر تلك في تنزانيا قبل 25 مليون عام وفرت العلاقة التكافلية للفطور بيئة نمو محمية و بالمقابل انتجت الفطور غذاءً للنمل على شكل المادة النباتية المتحللة و انزيمات تساعد على تفكيك السيليلوز وفي شكل الكتلة الحيوية للفطر. وزرع النمل الأبيض الفطر بكميات هائلة على ركيزة من المادة النباتية الخشبية المعجونة جزئياً.
ولفعل ذلك يقوم النمل الأبيض بأكل المادة النباتية ويمررها عبر جوفه قبل إخراجها وتشكيل المادة النباتية المهضومة جزئياً على شكل سلسلة من الحبيبات الخشبية الكروية الصغيرة والتي تسمى الكريات اللامية (مايلوسفير) ويتم لقح هذه الكريات بأبواغ الفطر من أجل بناء حديقة الفطر.يساعد الفطر في تفكيك المادة النباتية الخشبية في الكريات اللامية إلى شكل قابل للهضم وينتج كميات كبيرة من أجسام الفطور المثمرة التي تصبح طعاماً للنمل.ثم تستهلك الكريات من قبل النمل بعد ان يتوقف الفطر في الخشب عن إنتاج الاجسام الثمرية ويموت.
والنمل الابيض والخنافس والنمل هي مجموعات الحشرات الوحيدة التي طورت مثل تلك العلاقات التكافلية مع الفطور وتتراوح تقديرات قدم هذا السلوك من 24 إلى 34 مليون عام لدى النمل الابيض ومن 45 إلى 65 مليون عام لدى النملوحوالي 50 مليون عام لدى الخنافس. وقبل اكتشافنا هذا كان أي دليل احفوري على سلوك زراعة الفطر في أي من هذه المجموعات نادراً للغاية. باستثناء تقريرين اشارا إلى ان هذا السلوك قد يعود إلى 7 أو 10 مليون عام لدى النمل الابيض والنمل.
افترض بحاثة آخرون ان بعض الاحافير الثانوية قد تسجل دليلاً على هذا السلوك يعود إلى 30 مليون عام.
ورغم ملاحظة سلوك زراعة الفطر لدى الخنافس يتوجب على البحاثة العثور على دليل حاسم لتحديد تاريخ ذلك السلوك.
إذاً أين نذهب من هنا؟
ان دراسة اثار الاقدام المستحجرة والقارية لا يزال في طفولته كعلم وتلقي مثل تلك الاكتشافات الضوء على الفرص الموجودة في هذا الحقل من البحث. وعندما يتعلق الامر بالبحث عن امور مثل قدم زراعة الفطر او سلوكيات اخرى قد نحتاج لتغيير معايير البحث.
قضايا بشأن الحفظ الاحفوري
لا يزال معظم تاريخ الحياة مجهولاً بسبب انتقائية عملية التحجر. تتكون كافة المخلوقات الحية من مادة عضوية وما لم تتحقق ظروف بيئية معينة فان المخلوقات ذات الاجساد الرخوة او أي دليل على سلوك معقد (مثل زراعة الفطر) يكون صعب الحفظ في السجل التحجري وإذا تم الحفظ تقوم عوامل تدميرثانوية مثل الانجراف والتحات والانغسالالكيميائي عبر تفاعل المياه الجوفية بتخريب أي دليل قبل كشفه في الحقل ولهذا يماثل السجل الاحاثي يانصيب حيث هناك فرصة واحد في المليون في الحفاظ على شئ شائع ولكن عابر كدليل زراعة الفطر.
كريستوفر تود. مرشح للدكتوراه في نفس الجامعة.
الصورة الاولى: قد يكون الافتتاح الاولي لوادي الفالق الكبير في جنوب شرق تنزانيا عاملاً اساسياً ادى إلى تطور سلوك زراعة الفطر لدى النمل الابيض.
الصورة الثانية: عش نمل ابيض بعمر 25 مليون عام وبقايا حديقة فطر محفوظة بداخله.
الصورة الثالثة:خريطة لوادي الفالق الكبير وتظهر منطقة البحث في فالق روكوا.
الصورة الرابعة (يسار): تكون حديقة الفطر الحديثة هذه للنمل الابيض ماكروتيرميس ناتالينينيس كريات صغيرة من المادة النباتية المهضومة جزئياً تسمى الكريات اللامية تتغذى عليها الفطور.
الصورة الخامسة : يعود تاريخ حديقة الفطر هذه في تنزانيا الى العصر الهولوسيني (من 500 إلى 5000 عام). لاحظ الغرفة المجوفة مع مشط فطر.