الإنطواء : هل الإنطوائية مشكلة أم مصدر قوة و إلهام ؟!

لطالما تربينا علي مفاهيم إجتماعية توحى بأن الإنطوائية أو العزلة هي أمر سيء بل في بيئتنا العربية هناك من يراها أقرب إلى المرض النفسي , فبينما يرى الناس الشخص الإنطوائي علي أنه شخص يعاني من مشكلة أو غريب الأطوار يرون علي الجانب الآخر الشخص الإجتماعي هو شخص جدير بالثقة و القيادة حتى و إن لم تتمتع شخصيته بالعمق اللازم لذلك.

بالطبع هناك فارق بين الإنطوائية و التي هي خيار شخصي يتبناه الإنسان كجزء يتكامل مع شخصيته و يعطيها العمق اللازم و بين الخجل و الرهاب الإجتماعي و الذي يكون سببه الخوف من أن يحكم عليك الناس بطريقة خاطئة تؤذيك.

إن العديد من العلماء و الأدباء و القادة وصفوا بالإنطوائية و غرابة الأطوار فما الذى يجعل من الإنطوائية أمراً سيئاً إذاً فالإنطوائية دائماً ما تعطينا المساحة الكافية من التأمل و النظر للأمور بعمق و هدوء بعيداً عن صخب الحياة و تراشق البشر.

علي سبيل المثال أنا شخص اكتشف أنه لا يمكنه العمل وسط الأجواء المشحونة و غير المريحة حتى انني اشعر بالضيق إذا اضطررت للتعامل مع شخص لا تعجبني أفكاره كما أجدني غير منجذب للروتين الذي تفرضه الوظيفة المنتظمة و التي آخر ما يطلب منك فيها هو أن تعمل عقلك بالإضافة إلي ساعات طوال كنت اضطر أن اقضيها في الإستيقاظ في مواعيد منتظمة بالإضافة إلي إهدار ما يزيد عن 4 أو 5 ساعات ذهاباً و إياباً .

أردت أن اعمل في وظيفة تفجر طاقات الإبداع لدى و تعطيني فرصة أكبر في التفكير و التأمل و تعلم المزيد بعيداً عن الصخب الإجتماعي و ضجيج البشر الآلات و تحقق لي السكون النفسي و متعة التعلم الدائم وفرصة أكبر للتجربة و الخطأ دون لوم.

أذكر أننى كنت جالس مع بعض الأصدقاء فبدأوا في الحديث عن فلان الذى ثرياً بسبب ارتفاع أسعار الأراضي و علان الذي اصبح يعد من الأثرياء في ظل ذلك وعلان الذي صار يسير بين الناس متباهياً بعد أن كان معدماً بينما اختفت الطبقة المتوسطة ثم شرعوا في توجيه النقد لى  علي اعتبار أنني صرت متخلفاً عن ركب هذا الصراع و حتي ذلك الحين لم أكن افكر في مسألة الركب تلك بل كنت سعيداً بخياراتي الشخصية في العمل و الحياة المنعزلة الهادئة.

تسرب الضيق و القلق إلى نفسي قليلاً و أنا اسأل نفسي هل حقاً أنا مخطىء في خياراتي ؟ قبل أن أنفض تلك الأفكار السيئة و أعود لعزلتي أعمل في صمت و أرفل في نعيم حياتي الهادئة و عملى الذى اخترته وعشقته و الذي سمح لي بأن أرى ابني يكبر أمام عيني بعيداً عن صراع المظاهر المحموم على المادة فما الفارق بين كثير أو قليل إذا كنت سعيداً بالفعل !.هذا الفيديو الذي تقدمه الكاتبة سوزان كين يتحدث عن ظاهرة الانطوائية و كيف أنها مصدر قوة و إلهام.

https://www.youtube.com/watch?v=mbh248OfSTI

تقول سوزان كين مؤلفة كتاب “الهدوء, قوة الإنطوائيون” :في كل مرة وصلتني رسالة أن نمط حياتي الهادئ والانطوائي لم يكن بالضرورة الخيار الصحيح ويجب علي أن انطلق إلى الانفتاح والتحرر أكثر. كنت دائما أشعر في داخلي أن هذا خاطئ وأن الانطوائية هي شيء رائع و أن الانطوائيون رائعون كما هم.

ولكن لسنوات كنت أرفض فطرتي، وبالتالي وبدل كل شيء غدوت محامية في ” وال ستريت “، بدلاً من رغبتي الأزلية في أن أغدو كاتبة — لأنني كنت أريد أن أثبت لنفسي أنني أستطيع أن أكون مندفعة و منفتحة كذلك. وكنت أحاول دوماً الذهاب إلى الحانات المزدحمة بينما كانت رغبتي حينها أن أحصل على عشاء هادىء مع أصدقائي. وكنت أقوم بتلك الخيارات المعاكسة لإرادتي بصورة تلقائية، لدرجة أنني لم أنتبه لما كنت أقوم به.


وهذا ما يقوم به معظم الانطوائيون، وهذه خسارة كبيرة لنا حقاً، وهي خسارة لزملائنا أيضاً ولمجتمعنا. وبمبالغة مضبوطة هي أيضاً خسارة للعالم أجمع. لأنه حينما يتعلق الأمر بالقيادة و الابداع، فإننا نحتاج من الانطوائيون أن يقوموا بأفضل ما يجيدون. إن ثلث إلى نصف المجتمع يعد إنطوائياً — الثلث إلى النصف. أي واحد من بين كل إثنين أو ثلاثة أشخاص تعرفونهم. وحتى إن كنت منفتحاً، فإن هذا يشمل رفاق عملك وشريك حياتك وأطفالك وحتى الشخص الجالس بقربك الآن — جميعهم عرضة لهذه النزعة إن هذا متأصل في مجتمعنا حقاً. وجميعنا يدرك ذلك منذ زمن بعيد قبل حتى أن نتمكن من تشكيل اللغة و توصيف أفعالنا.


ولكي نرى هذه الشريحة جيداً علينا أن نفهم جيداً ما هي الانطوائية. إنها أمر مختلف عن كون المرء خجولاً. إن الخجل هو الخوف من حكم المجتمع. إن الانطوائية هي أقرب، إلى كيفية استجابتك للتحفيز، بما فيه التحفيز الإجتماعي. إن المنفتحين يحتاجون الكثير من التحفيز، بينما الانطوائيون يشعرون أكثر ما يشعرون بالحياة أو بالقدرة أو بالتمام عندما يكونون في بيئة هادئة وبيئة قليلة التغير والنشاط. ليس كل الوقت — فهذه ليس مطلقات — ولكن في معظم الأحيان. إذا فإن المفتاح إذن لتفعيل مهاراتنا إلى الحد الاقصى هو أن نضع أنفسنا في بيئة تحفيز ملائمة لنا.
ولكن هنا تظهر النزعة. أن مؤسساتنا الأكثر أهمية، و مدارسنا و بيئة عملنا، صممت في الغالب للمنفتحين وحاجة المنفتحين للكثير من التحفيز.

ولدينا اقتناع الآن أسميه ” التفكير الجماعي الجديد “، والذي يقول أن كل الإبداع و كل الإنتاجية تأتي بصورة ما من الأماكن الغريبة الاكتظاظ.


لذا فصورة المكان الأمثل للتدريس هذه الايام هي التي تراعي ذلك: في أيامنا عندما كنت اذهب الى المدرسة، كنا نجلس في صفوف. كنا نجلس في صفوف كهذه، وكنا نقوم بمعظم الوظائف بصورة شخصية. ولكن اليوم الفصل المثالي هو الذي يحوي تجمع طاولات ل4 او 5 او 6 او 7 أطفال في مواجهة بعضهم البعض. ويعمل الأطفال في مجموعات عمل لحل وظائفهم. وحتى في الرياضيات و التعبير، حيث يجب كما نظن العمل و التفكير بصورة فردية، يتوجب على الأطفال التفاعل كما لو أنهم أعضاء لجنة. وبالنسبة للطفل الذي يفضل أن يعمل بمفرده فقط، يتم النظر إليهم كأنهم منعزلون دخلاء أو أسوء من هذا .. يتم النظر إليهم كمشكلة. والغالبية من المدرسين يقرون أن الطالب المثالي هو الطالب المنفتح أي عكس المنطوي تماماً، حتى لو كان الانطوائيون يحصلون على درجات أفضل ولديهم معلومات اكثر، تبعاً للأبحاث. 


والأمر صحيح أيضاً في العمل. معظم الشركات يكون مكان عملها مفتوحاً، بدون جدران، حيث نكون عرضة للضوضاء الدائمة و حشرية الزملاء. وعندما يتعلق الأمر بالقادة، فإن الانطوائيون عادة ما يتم تجاهلهم لذلك المنصب، حتى لو كان الانطوائيون يميلون لكونهم حريصين جدا، وأقل عرضة للإقدام على المخاطر الجمة — والتي سوف نكون في راحة لولاها اليوم. والأمر المثير بحسب الباحث آدم جرانت من جامعة وارتون أنه وجد أن القادة الانطوائيين عادة ما يحققون المطالب أكثر من أولئك المنفتحين، لأنهم عندما يتفاعلون مع الموظفين، عادة ما يتركون الموظفون يديرون الأمر بحسب آرائهم وأفكارهم الخاصة، بينما المنفتحون ينفعلون بدون قصد إلى حد بعيد، ويتحمسون جدا حول الأمور ويحاولون دوما وصم الأفكار بوصمتهم الخاصة، مما يجعل الأفكار الأخرى تعاني صعوبة في الوصول إلى مكانها الصحيح أو حتى الظهور.


في الحقيقة أن كل القادة الذين غيروا تاريخنا كانوا انطوائيون. وسوف أعطيكم بعض الأمثلة. الينور روزفلت , روسا باركز , غاندي — كل هؤلاء وصفوا أنفسهم بأنهم لا يكثرون التحدث وحتى أنهم خجلون. وجميعهم مشهور جداً، واستطاعوا الوقوف أمام الأضواء رغم أن كل جزء منهم كان يحثهم على العكس. وقد بان لنا جميعا قوتهم الخاصة في ذلك، لأن الناس كان تعي أن هذه النوعية من القادة تتربع على رأس الهرم، لا لأنها تعشق توجيه الآخرين ولا لأنها تعشق جذب الأضواء؛ ولكن لأنهم لم يملكوا خيارا آخر، ولأنهم يشعرون أنهم مدفوعون للقيام بما هو صحيح.

أعتقد أنه في هذه المرحلة من المهم لي أن أقول إنني أحب المنفتحين. وأحب دوما أن أقول أن بعض أصدقائي منفتحين، بما فيهم زوجي العزيز. ونحن بالطبع نختلف في عدة نقاط، على مدى طيف المنفتحين و الانطوائين. حتى كارل يانغ العالم النفسي الذي طرح هذين المصطلحين ( المنفتحون – الانطوائيون ) قال أنه لا يوجد حقيقة شخص منطو تماما أو منفتح تماماً. قال أن شخصا كهذا سيكون في مأوى المجانين، إن كان موجود أساسا. ومعظم الناس تقع بين هذا و ذاك على مدى طيف المنفتحين و الانطوائين، ونطلق عليهم المعتدلين. وأنا أعتقد أن لديهم أفضل ما في الأمرين. ولكن عادة ما نصنف أنفسنا ناحية نوع أو الآخر.


وما أقوله أننا ثقافياً نحتاج توازنا أفضل. نحتاج المزيد من ” الين / اليانغ ” بين النوعين ” الانطوائي / المنفتح “. وهذا مهم بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالإبداع و الإنتاجية، لأنه عندما ينظر علماء النفس إلى حياة أكثر الأشخاص إبداعا، ما يجدونه هم أشخاص أقدر على تبادل الأفكار وتطوير الأفكار، وفوق هذا من يملك ميلاً واضحاً للانطواء.


وهذا لأن العزلة عنصر حاسم في كثير من الأحيان للإبداع. لذا دارون، كان يسير طويلاً في الغابات وكان للأسف يرفض العديد من دعوات العشاء. ثيودور جيسل والمعروف ب: د. سوس، حلم بالكثير من شخصياته العجيبة وحيداً في مكتب برج الجرس الذي كان يملكه في فناء منزله في لاجولا بكاليفورنيا. وكان يخاف حقيقة من مقابلة الأطفال الذين كانوا يقرؤون قصصه من خوفه من أنهم يظنون أنه يبدو مرحا كشخصية بابا نويل وسوف ينصدمون من معرفة حقيقته المنطوية. ستيف وزنيك اخترع أول حاسوب آبل جالسا في مكتبه المكعبي في شركة أتش بي حيث اشتغل آنذاك. وقال أنه لم يكن ليصير خبيرا في الدرجة الأولى لو أنه لم يكن انطوائيا لدرجة تمنعه من الخروج من المنزل عندما كان فتياً.


الآن وبالطبع، لا يعني هذا أنه علينا أن نتوقف جميعا عن التعاون — ,والمثال على ذلك تعاون ستيف وزنيك الشهير مع ستيف جوبز لإنشاء شركة آبل للحواسيب — و لكن هذا يعني هذا أن الانعزال مهم وأنه بالنسبة لبعض الأشخاص الهواء الذي يتنفسونه. في الحقيقة جميعاً نعلم لقرون بخصوص القوة السامية للعزلة.

ولكننا ولأسباب غريبة بدأنا ننسى ذلك الأمر. إن نظرتم إلى الأديان الرئيسية في العالم، سوف تجدون كل المؤمنين — النبي موسى والنبي عيسى والنبي محمد (عليهم الصلاة والسلام) وبوذا — كلهم كانوا ينعزلون بأنفسهم في العراء بعيداً عن الآخرين حيث يمكنهم أن يتلقوا وحيهم ودعوتهم لكي يعودوا بها إلى بقية المجتمع. إذا بدون خلوة .. لا توجد صحوة.


ومع ذلك ليس هذا بالأمر الجديد إن نظرنا إلى علم النفس المعاصر. فإنه يقول أننا لا يمكن أن نتواجد بين جماعة من الناس دون أن نتصرف بصورة لا واعية بمراقبة و تقليد آرائهم و أفكارهم. وحتى بخصوص الأمور الشخصية والعميقة كمن تنجذب إليه، وسوف تبدأ بتقليد حتى معتقدات الناس من حولك دون أن تدرك ما الذي تقوم به.


وعادة معظم المجموعات تقوم بالانصياع لرأي الفرد الأكثر جاذبية و سلطة في الغرفة، حتى لو لم يكن هناك علاقة منعدمة بين الأفكار الصحيحة و طريقة عرضها من قبل ذلك الفرد — أعني صفر. حسناً .. يمكن أن تتبع الشخص الذي يحمل الأفكار الصحيحة، لكن قد لا تفعل. هل تريد فعلا أن تترك الامر للصدفة ؟ إنه من الأفضل أن يتحرك الناس بأنفسهم .. وأن يولدوا أفكارهم الخاصة وأن يتحرروا من تشوهات الدينامية الجماعية، و من ثم يجتمعون كفريق ليتحدثوا ويتحاوروا في بيئة مضبوطة بشكل ملائم وأن ينطلقوا من تلك النقطة.


وإن كان كل هذا صحيحاً، فلماذا نتعامل معه نحن بصورة خاطئة؟ لماذا نصمم مدارسنا و أمكنة عملنا على هذا النحو؟ لماذا نجعل الانطوائيين يشعرون بالذنب هكذا فيما يخص اختلاءهم بأنفسهم بعض الوقت؟ إجابة واحدة سنجدها في عمق التاريخ الثقافي.

للمجتمعات الغربية، وتحديدا في الولايات المتحدة الامريكية، وهي تفضيل الرجل المغوار على الرجل المتأمل والرجل المتفكر. ولكن في أيام أمريكا الأولى، كنا نعيش في ما يطلق عليه المؤرخون ثقافة الطباع، حيث كنا لا نزال في تلك المرحلة نقدر الأشخاص لما يكمن في دواخلهم و لمبادئهم الاخلاقية. وإن نظرتم إلى كتب المساعدة الذاتي في تلك الحقبة، فسوف نجد عناوينها على شاكلة “الشخصية، أعظم شيء في الكون.” وكانت تلك الكتب تقدس شخصيات من مثل ابراهام لينكولن والذي كان يحب التواضع والابعتاد عن التعجرف. حيث وصفه رالف والدو ايميرسون ” شخص لا يسيء بإستعلائه”


ولكن عندما وصلنا القرن ال20 ودخلنا ثقافة جديدة عصر ما يسميه المؤرخون عصر الشخصية. فما حدث هو أننا تطورنا من اقتصاد زراعي إلى عالم شركات تجارية كبرى. وفجأة وجد الناس أنفسهم ينتقلون من القرى الصغيرة إلى المدن وبدلا من العمل مع أشخاص يعرفونهم طيلة حياتهم، أصبح يتوجب عليهم الآن ان يثبتوا أانفسهم ضمن جمع من الغرباء.

لذا وبصورة مفهومة، فإن صفات الجذب و الكاريزما أصبحت مهمة جداً وحتماً تغيرت كتب المساعدة الذاتي لكي تلاقي تلك الاحتياجات وأصبحت عناوينها على غرار ” كيف تكسب الاصدقاء و تؤثر في الناس” ويظهرون كقدوة لهم الباعة الناجحين حقا. وهذا هو العالم الذي نعيش فيه اليوم. وهذا هو ما تبقى من ميراثنا الثقافي.


الآن، لا شيء من هذا للقول أن المهارات الاجتماعية ليست مهمة، وأنا كذلك لست أدعو إلى منع عمل الفريق على الاطلاق. فذات الاديان التي دفعت حكماءها إلى الاختلاء و التعبد في قمم الجبال المنعزلة هي ذاتها من علمتنا الثقة و الحب. والمشكلة التي نواجها اليوم في حقول العلوم و الاقتصاد هي واسعة جداً و متشعبة ونحتاج لجيوش من البشر لكي تتحد سوية من أجل حلها بالعمل معا. وأنا أقول أنه بقدر ما نعطي الانطوائيون حرية أكبر لكي يكونوا أنفسهم، بقدر ما يرجح أنهم سوف يعودون بحلولهم الفردية لتلك المشاكل.


والآن أريد أن أشارككم ما أحمله معي في حقيبتي اليوم. خمنوا ماذا؟ كتب. لدي حقيبة مليئة بالكتب. هذا ” عين القط ” لمارجريت اتوود. وهذه رواية لميلان كونديرا. وهذا ” دليل الحيارى ” ل ” مينوميديس “. ولكنها ليست حقيقة كتبي. لقد جلبت هذه الكتب معي لأنها كتب أدرجت على قائمة مؤلفي جدي المفضلين.


لقد كان جدي حاخاما و أرملاً وكان يقطن في شقة صغيرة في بروكلين وكانت تلك الشقة مكاني المفضل اثناء طفولتي، لأنني كنت من جهة أشعر بلطفه و بحضوره الأخاذ ولأنها من جهة اخرى كانت مليئة بالكتب. أعني ذلك حرفياً .. كل مكان على كل طاولة وعلى كل كرسي في تلك الشقة قد غير وظيفته الأصلية ليشتغل كواجهة لأكوام الكتب المتمايلة. تماما مثل بقية عائلتي، فقد كان عشق جدي الوحيد في هذا العالم هو القراءة.


وكان يحب كذلك أبرشيته، ويمكنك أن تشعر بهذا الحب في الخطب الدينية التي قدمها كل أسبوع لمدة 62 لكونه حاخاما. وكان يأخذ ثمار قراءاته الأسبوعية وكان يجمع عصارات الفكر والادب و الافكار الانسانية وينسجها. وكان الناس يأتون من كل مكان لكي يسمعوه و هو يتحدث.
لكن ها هو الأمر الفريد بخصوص جدي. تحت هذا الدور الخطابي، كان متواضعاً ومنطوياً جدا — لدرجة أنه حين كان يلقي خطبه الدينية، كان يتجنب التواصل البصري مع نفس الأبرشية أثناء تحدثه لطيلة 62 عاماً. وحتى خارج منصة التحدث، عندما تصادفه لتلقي التحية، عادة ما ينهي الحوار قبل الأوان.. لأنه يخاف من أن يصرف الكثير من وقتك. ولكن عندما توفي في عمر 94، اضطرت الشرطة أن تغلق شوارع حيه لاستيعاب حشود الناس الذين جاؤوا لتعزيته. وفي هذه الايام أحاول التعلم من مثال جدي بطريقتي الخاصة.


وقد أصدرت كتاباً عن الانطوائية، واستغرقني 7 سنوات لكتابته. وبالنسبة لي .. كانت تلك السنوات السبع نعمة كبيرة، لأنني كنت اقرأ و أكتب، وكنت أفكر و أبحث. كانت تلك نسختي للساعات التي يقضيها جدي وحيدا ف مكتبته. واليوم فجأة غدت وظيفتي مختلفة جدا، ووظيفتي هي أن أكون هنا للحديث عن ذلك، أقصد الانطوائية. وهذا أمرٌ صعب بالنسبة لي، لأنه بقدر ما يشرفني أن أكون هنا معكم الآن، هذا ليس وسطي الطبيعي.
لقد حاولت الاستعداد للحظات كهذه بأحسن ما أستطيع. لقد قضيت السنة الماضية أتدرب على التحدث أمام الجموع في كل فرصة تسنح لي. وأنا أطلق على هذا العام ” عام التحدث الخطر “. ولقد ساعدني ذلك كثيراً. ولكن أريد أن أخبركم ما الذي ساعدني أكثر حتى هو إحساسي، وإيماني وأملي أنه حين يتعلق الأمر بمواقفنا حيال الانطوائية والانعزال و الهدوء، على وشك تغير جذري هائل. أعني، نحن كذلك .. وأنا سوف أترككم الآن مع ثلاثة نداءات للعمل لمن يشاركني رؤيتي هذه.


أولاً : أوقفوا هذا الهوس حيال حلقات العمل الجماعية الدائمة. أعني حقاً أوقفوه ! أريد أن اكون واضحة في إيصال فكرتي، أنا فعلا أؤمن أن مكاتبنا يجب أن تكون مشجعة وعفوية وسهلة للحوار والتواصل — كما تعلمون الأماكن حيث يجتمع الناس لتبادل الافكار بالمصادفة. ذلك أمر رائع. إنه رائع للانطوائيين و المنفتحين. ولكن نحتاج حقا حرية أكثر و خصوصية أكثر وتفرد أكثر في العمل. وذات الأمر في المدارس. حتما نحتاج أن نعلم أطفالنا كيفية العمل بصورة جماعية، ولكن علينا أيضا أن نعلمهم كيف يعملون بمفردهم أيضاً. وهذا مهم بشكل خاص للأطفال المنفتحين كذلك. عليهم أن يتعلموا كيفية العمل بصورة فردية لأن هذا جزء من مصدر الأفكار العميقة.


والأمر الثاني : اذهبوا إلى البرية. كونوا مثل بودا، كونوا صحوتكم الخاصة. أنا لا أقول أننا يجب أن نترك كل شيء ونبني بيوتا في الغابات وألا نتحدث لبعضنا البعض مجددا. ولكن أنا أقول أنه يجب من حين لآخر أن ننعزل قليلا ونقطع الصلة وأن نجول داخل رؤوسنا بتردد أكثر بقليل.


والأمر الثالث : انظروا جيداً ماذا تحويه حقيبتكم الشخصية ولماذا وضعتم فيها ما وضعتم. حسنا أيها المنفتحون، ربما حقيبتكم مليئة بالكتب ايضاً. أو ربما مليئة بكؤوس المشروبات أو معدات القفز المظلي. مهما يمكن، أتمنى أن تكون لديكم الفرصة لكي تخرجوا تلك الأشياء وتشرفونا بطاقتكم وبهجتكم. وبالنسبة للانطوائيون ، كونكم كما أنتم، ربما لديكم حافز لحراسة ما بداخل حقائبكم بعناية فائقة. وهذا أمر مستحسن. ولكن من حين لآخر، من حين لآخر فقط، أرجوا أن تفتحوا تلك الحقائب للناس لكي يروا، لأن العالم يحتاجكم ويحتاج ما تحملونه.


اكتشاف المزيد من مجلة رؤى

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سبعة عشر − ثلاثة عشر =

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

اكتشاف المزيد من مجلة رؤى

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading