دائماً ما نحتكم للعلم في كل الأمور فغالباً يدلنا على أأمن الطرق و أفضلها إلا أننا لا يجب أن ننسى أن العلماء بشر أيضاً يصيبون و يخطئون . هذه المعرفة ضرورية لكي نحتاط دائماً و لا نستهين أبداً بما يمكن أن تفعله الأخطاء الطبية أو الإهمال في التعامل مع الأدوية سواء خلال مراحل الإنتاج أو حتى الإستهلاك.
الثاليدومايد Thalidomide هو عقار استخدم كمهديء للحوامل في ستينيات القرن الماضي و قد حظي بدعاية كبيرة بإعتباره آمن للإستخدام من قبل الحوامل لكن هذا الإعتقاد كان خطأ فادح فما سببه هذا العقار عانى منه العديد من الأطفال حول العالم فيما بعد !.
كان الثاليدومايد بحلول عام 1957 م قد انتشر في أكثر من 46 دولة حول العالم على رأسها ألمانيا و كندا و اليابان و غيرها حيث وصفه الأطباء كعلاج مسكن للنساء الحوامل ليقيهم من غثيان الصباح بيتما لم يمنعه سوى الولايات المتحدة الأمريكية حيث رفضته آنذاك
فرانسيس أولدهام كيلسي الطبيبة و الصيدلانية الكندية و المراجعة لدى إدارة الغذاء والدواء الأمريكية شكت في أن هذا الدواء لم يحظ بالدراسات السريرية الكافية و بالتالي رفضت تداوله في الولايات المتحدة الأمريكية برغم ضغوط الشركة المنتجة ليثبت في النهاية صحة نظريتها و تتحول إلى بطلة قومية في الولايات المتحدة بسبب منعها لكارثة كانت ستصيب مئات الأطفال الأمريكيين لو سمحت بتداوله
, كان العقار من أكثر العقارات انتشاراً و كان يتم وصفه فوق الطاولة حتى أن شهرته آنذاك أشبه بشهرة تناول البنادول اليوم . و في عام 1960 لوحظ الإنتشار الكبير لحالات التشوهات الخلقية لدى الأطفال حيث ولد العديد من الأطفال بلا أيدي أو أرجل . هال إنتشار هذه الحالات العلماء مما جعلهم يبحثون السبب فيها ليكتشفوا في النهاية النتيجة المفزعة و هي أن عقارهم الذي اعتقدوا بأنه لا يؤذي الحوامل هو في الحقيقة السبب المؤكد لتشوهات الأجنة حتى مع تعاطيه و لو لمرة واحدة فقط في الشهور الأولى من الحمل !
عانى الأطفال الذين تناولت أمهاتهم هذا العقار من الإعاقات بسبب ولادتهم بلا أيدي أو أرجل و أحياناً بأيد و أرجل شبيهة بالزعانف و هي الحالة التي تعرف بفقمية الأطراف , كما اشتملت التشوهات على فقدان الأذنين أو تشوهها أو الشذوذات في تكون الحبل الشوكي و القلب و غيرها من الأعضاء , لقد تسبب الثاليدومايد في تشوهات لنحو 12,000 طفل في 46 دولة حول العالم !.
اكتشف العلماء لاحقاً أن الثاليدومايد يمنع نمو الأوعية الدموية الجديدة بجسم الإنسان مما يسبب التشوهات الخلقية. فالأوعية الدموية الجديدة مهمة لنمو أطراف الأجنة. و قد تم حظر استخدام العقار في عام 1962م ليسدل الستار على واحد من أبشع الأخطاء العلمية و الطبية .
و بالرغم من منع استخدام الثاليدومايد على الحوامل إلا أن العلماء وجدوا أنه قد يكون مناسباً لعلاج الأورام السرطانية التي تحتاج دائماً لنمو أوعية دموية جديدة كما يلغي التاليدوميد فاعلية عامل الورم النخري ألفا وهو بروتين يسبب الالتهابات والحمى ونقص الوزن وحالات مرضية أخرى. كما وجدوا أنه يمكنه علاج كثير من الأمراض مثل الجذام والدرن والذئية والأيدز (متلازمة عوز المناعة المكتسب) مستوى عامل الورم النخري ألفا في جسم الإنسان. وأثبت الباحثون نجاح التاليدوميد في علاج كافة هذه الحالات المرضية.
في عام 1998 م، وافقت إدارة الغذاء والدواء بالولايات المتحدة على استخدام التاليدوميد في علاج الجذام. واستحدثت الإدارة نظام توزيع خاص يضمن عدم وصول الثاليدومايد للنساء الحوامل. يجبر هذا النظام الأطباء على إحاطة مرضاهم بمخاطر الثاليدومايد، ويقدم الصيادلة وصفاً مفصلاً لتركيب الدواء بل ويوقع المريض على صيغة تثبت إدراكه لمخاطر العقار، ويلتزم بعدم مشاركة أحد غيره لهذا العقار . و للسماح بإستخدام العقار تقدم النساء اللواتي في سن الإنجاب ما يثبت استخدامهن لوسائل تنظيم النسل، كما يخضعن لاختبارات التأكد من عدم وجود حمل طيلة فترة استخدامهن للعقار. ويأمل الأطباء بتطبيق هذا النظام توفير العقار بأمان لمن يحتاجه.
و بالرغم من تلك الضوابط إلا أن الكثير من دول العالم الثالث لم تضع مثل تلك المحاذير على هذا الدواء و الذي أعيد استخدامه لعلاج حالات الجذام و بعض السرطانات و بعض الحالات المستعصية الأخرى لكن للأسف و برغم المحاذير بدأت تظهر بعض الحالات مرة أخرى في بعض المناطق الفقيرة التي تفتقر للتوعية السليمة و كان أكثر ظهور لها في البرازيل.
سعى العلماء لإيجاد صيغة جديدة لهذا الدواء ربما تكون أقل في الأثار الجانبية و بالفعل وجدوا أن استبدال ذرة النيتروجين في هذا المركب بذرة اكسجين قلل من آثاره الجانبية و جعله أكثر أمناً و سمي العقار الجديد ليناليدوميد Lenalidomide .
Advertisements
و بالرغم من مرور أكثر من 60 عام على الحادثة إلا أنها لا تزال مضرب الأمثال في ضرورة التدقيق الطبي فيما يخص العلاجات الدوائية حتى اليوم .