خديعة الملح
تأليف الدكتور جاسون فنج. إستشاري أمراض الكلية. تورنتو. كندا
ترجمة: إبراهيم عبدالله العلو
أطلق على الملح عام 1982 لقب “الشرير الجديد” على غلاف مجلة تايم. وفي عام 1988 نشرت دراسة الإنترسولت وبدا أنها ستقول القول الفصل في هذه القضية.
شملت هذه الدراسة الهائلة 52 مركزاً في 32 دولة وقامت بقياس استهلاك الملح ومقارنته بضغط الدم. وكان مستوى ضغط الدم يرتفع بشكل مطرد مع إرتفاع إستهلاك الملح في شتى المجتمعات. وبدا أنها ذات قرار حاسم رغم أن التأثير كان ضيئلاً. حيث تبين أن تخفيض الإستهلاك اليومي للملح بنسبة 59% قد يخفض ضغط الدم بمقدار 2 ملم زئبق. أي إذا كان الضغط الانقباضي 140 فإن تخفيض استهلاك الملح بشكل كبير سيخفض ذلك الضغط إلى 138. ولكن لم تتوفر أي بيانات تربط ذلك بالجلطات والنوبات القلبية.
وبناء على هذه الدراسة المؤثرة طالبت توصيات الحقائق الغذائية الأمريكية في عام 1994 أن لا يزيد استهلاك المواطن عن 2400 مليجرام من الملح في اليوم (أي ما يعادل ملعقة شاي صغيرة) . ولكن الحقيقة تقول أن كافة المجتمعات المعافاة في العالم تأكل كمية من الملح أكثر مما توصي به هذه التوصية.
حدثت التطورات المذهلة في مجال الصحة وزيادة معدل أعمار البشر خلال الخمسين سنة الماضية في فترة تناول فيها كل الناس كمية أكبر من الملح.
ترتكز اعتقاداتنا بمنافع تناول كمية منخفضة من الملح إلى المعلومات الخاطئة والخرافات الخاطئة أيضاً. ويمكن القول أن الإفراط في تناول الملح كان نتيجة لزيادة استهلاك الأطعمة المعلبة والمصنعة وهي ظاهرة حديثة. ويدعي دال في كتاباته أن الإستخدام العريض للملح كمادة تتبيل لم يكن شائعاً حتى العصور الحديثة.
تظهر البيانات المتوفرة من الأرشيف العسكري والتي يعود تاريخها إلى عام 1812 أن الجنود وكذلك معظم المجتمعات الغربية تناولت ما بين 16 و20 غرام من الملح كل يوم. وحافظ الجنود خلال حرب عام 1812 على استهلاك يومي من الملح يقدر ب 18 غرام رغم ارتفاع أسعاره. واشتكى أسرى الحرب الأمريكيين بمرارة من ضآلة حصتهم اليومية من الملح والتي لم تتجاوز 9 غرام في اليوم.
ولم يخفض الأمريكان استهلاكهم اليومي من الملح إلا بعد الحرب العالمية الثانية عند توفر الثلاجات على نطاق واسع وحل التبريد محل التمليح كوسيلة اساسية لحظ الأطعمة وحافظوا منذ ذلك الوقت على معدل 9 غرام يومياً. ولم تثار في السنوات التالية للحرب العالمية الثانية مخاوف من وفيات متزايدة بسبب أمراض القلب والجلطات أو أمراض الكلى- وهي الأمور الرئيسية التي ترعبنا وتدعونا لتخفيض استهلاكنا من الملح.
تحول المد
عانت فرضية أن تخفيض الملح قد ينقذ المزيد من الأرواح من عقبات عديدة. فشل دال في ملاحظة أن المجتمعات ذات الاستهلاك المرتفع من الملح لم تعاني من عواقب صحية كارثية. يستهلك محاربو السامبورو ما يقرب من من ملعقتين صغيرتين من الملح كل يوم وربما يصل الأمر ببعضهم للعق الملح مباشرة من أحجار الملح المخصصة لأبقارهم. وبالرغم من هذا الاستهلاك المفرط كان معدل الضغط لديهم 10672 ملم زئبق ولم يظهر أي إرتفاع مع التقدم في السن. وبالمقارنة يعاني ثلث سكان أمريكا الشمالية من البالغين من إرتفاع ضغط الدم حيث يكون المعدل 90140 ملم زئبق أو أعلى. وللتوضيح يكون معدل الضغط الطبيعي 80120 ملم زئبق ويرتفع غالباً مع التقدم في السن في الولايات المتحدة.
تناول القرويون في كوتيانج في نيبال ملعقتين صغيرتين من الملح يومياً أما هنود كونا فقد تناولوا ملعقة ونصف يومياً دون أي أعراض لإرتفاع ضغط الدم مما يناقض فرضية دال بأن الحمية المحتوية على مقدار مرتفع من الملح ترفع ضغط الدم.
تظهر أحدث الإحصائيات العالمية لإستهلاك الملح أنه لا يوجد أي منطقة في العالم تلتزم بتوصيات منظمة الصحة العالمية أو غيرها للحد من الملح. تبين أن منطقة وسط آسيا كانت الأعلى في تناول الملح تبعها بشكل حثيث منطقة آسيا المحيط الهادي ذات الدخل المرتفع بما في ذلك اليابان وسنغافورة. ومعروف أن الطعام الياباني مرتفع المحتوى من الملح مع الإستخدام السخي لصلصة الصويا والميسو والخضار المخللة. ولا يبدو أن اليابانيون يعانون من تأثير سيء ويمتلكون أعلى معدل للأعمار على ظهر الكوكب يقدر ب83.7 سنة. تأتي سنغافورة في المرتبة الثالثة بمعدل الأعمار ب83.1 سنة.
وإذا كان تناول الملح بذلك السوء على الصحة البشرية كيف يصح أن تكون أعمار الشعوب التي تتناول في حمياتها أكبر قدر من الملح أعلاها على مستوى العالم؟
بدأ الإهتمام بالحمية المنخفضة الملح عام 1973 عندما كشفت دراسة عن وجود ستة مناطق كان معدل ضغط الدم فيها منخفضاً بالرغم من الطعام المرتفع المحتوى من الملح. مثلاً شعب أوكاياما الذي استهلك ملحاً أكثر من معظم الشعوب في عصرنا الحالي(حوالي 3 ملاعق صغيرة وثلث من الملح يومياً)ومع ذلك تمتع بأخفض معدل لضغط الدم في العالم.
وفي بعض الأحيان إنخفض ضغط الدم مع إرتفاع إستهلاك الملح. استهلك الهنود الشماليون ما يقرب من 2 ملعقة صغيرة ونصف من الملح يومياً(14 غرام) وحافظوا على معدل ضغط دم يقدر ب 81133 ملم زئبق. وفي جنوب الهند كان معدل استهلاك الملح نصف معدل إستهلاك الشمال ولكن معدل ضغط الدم كان أعلى ووصل إلى 88141 ملم زئبق.
ولكن بقي تساؤل حول دراسة انترسولت الواسعة. بدأ التحليل المكثف للبيانات برسم صورة مختلفة كلياً للملح.
شملت الدراسة أربعة مجتمعات بدائية(اليانومامو والزينجو وسكان بابوا نيو غينيا والكينيان) في التحليل الأولي والتي كانت أصلاً تتناول معدلات منخفضة من الملح عن بقية مناطق العالم. وعاشت هذه المجتمعات حياة بدائية مختلفة عن الآخرين وكان بعض منها يتناول كمية من الملح تقل بمعدل 99% عن البقية. وتلك العينة الغريبة لا تمثل بقية شعوب العالم وبما أنهم كانوا يحيون حياة معزولة كان لهم تأثير يفوق حجمهم عن معدلات الآخرين.
إختلفت هذه المجتمعات البدائية الأربعة عن المجتمعات الحديثة في كثير من الأمور وليس في النظام الغذائي فحسب. عاش هنود اليانومامو في البرازيل حياة تقليدية تراوحت بين الصيد وجمع الثمار كما فعلوا طوال قرون عديدة. ومارسوا طقوس تناول رماد أسلافهم ظناً منهم أن ذلك يحافظ على بقاء أحبائهم أحياء. لم يتواجد لديهم أي أغذية مصنعة ولم يمتلكوا الطب الحديث. ومجرد مقارنتنا لحياة هذه القبيلة التي تعيش في غابات الأمازون مع مجتمع امريكي حديث يعيش في غابات نيويورك أمر غير عادل. كما أن عزل مركب وحيد من حميتهم، وأقصد الصوديوم وإدعاء أنه المسؤول الوحيد عن إرتفاع ضغط الدم يمثل أعلى درجات البحث السيء. ولا يختلف كثيراً عن القول أن إرتداء ملابس قطنية يخفض ضغط الدم.
وثمة قضايا أخرى. تبين أن هنود اليانومامو والزينجو يفتقدون تقريباً لمورث محدد دد من الإنزيم المحول للأنجيوتنسين والذي يضع هؤلاء السكان عند معدل منخفض للغاية من أمراض القلب وإرتفاع ضغط الدم. إذاً قد لا يكون إنخفاض إستهلاك الصوديوم المساهم الرئيس أو الثانوي في إنخفاض ضغط الدم في هذه المجموعات.
يمكن الحصول على معلومات إضافية أخرى إذا أزلنا هذه المجتمعات الخارجية المعزولة من دراسة السكان ولنرى إن كانت ستحدث فرقاً في الإفتراض الأساسي لتلك الفرضية حول الملح.
عندما استثنينا هذه المجتمعات البدائية الأربعة تبقى لدينا 48 مجتمع غربي في الدراسة وكانت النتيجة معاكسة تماماً للدراسة الأولية. وتبين انخفاض ضغط الدم مع إرتفاع إستهلاك الملح وكان الإقلال من تناول الملح ضاراً بالصحة وأحياناً مؤذياً.
لم يكن الإثبات من الولايات المتحدة مقنعاً بما فيه الكفاية. فإحصائيات التغذية والصحة القومية هي إحصائيات كبيرة الحجم لعادات التغذية لدى المجتمع الأمريكي وتتم بشكل دوري. واكتشفت الإحصائية الأولى أن من يأكلون أقل معدل من الملح فارقوا الحياة بمعدل يزيد ب18% عن من يتناولون أعلى معدل من الملح وكانت تلك نتيجة مهمة ومزعجة في ذات الوقت.
أما الدراسة الثانية فقد أثبتت أن الحمية منخفضة الملح إرتبطت بإرتفاع 15.4% في خطر الوفاة. وكشفت تجارب أخرى زيادة في النوبات القلبية لدى المرضى الذين يتبعون حمية منخفضة الملح لتخفيض ضغط الدم. وهؤلاء هم المرضى الذين نصحهم أطبائهم بحمية منخفضة الملح.
وفي عام 2003 طلب مركز مكافحة الأمراض الذي يعتبر جزءاً من وزارة الصحة والخدمات الإنسانية من معهد الطب إلقاء نظرة جديدة على الدليل المتوافر حول معدل الوفيات وأمراض القلب وليس حول إرتفاع ضغط الدم.
وبعد بحث مضن في غمار الأدبيات الطبية نشر معهد الطب عدة استنتاجات أساسية. تبين لهم أن الحميات المنخفضة الملح قد تخفض ضغط الدم” ولكن الدليل الموجود لا يدعم أي نتيجة إيجابية أو سلبية لتخفيض استهلاك الملح إلى أقل من 2300 مليجرام في اليوم فيما يتعلق بخطر الأمراض القلبية أو معدل الوفاة لدى عموم السكان.” اي أن تخفيض إستهلاك الملح لم يخفض خطر الوفاة أو الذبحة الصدرية.
ولكن في حالات فشل القلب “استنتجت اللجنة أن هناك دليل كاف لإقتراح تاثير سلبي لإستهلاك الملح المنخفض.”
اي أن المرضى المنصوحين بتخفيض استهلاك الملح سيعانون أكبر قدر من الضرر.
ولكن يصعب تغيير الاعتقادات. تستمر التوصيات الغذائية لعام 2015 بالنصح لتخفيض استهلاك الملح إلى أقل من 2300 مليجرام من الملح يومياً(حوالي ملعقة صغيرة من الملح) مع التأكيد على أن لا يزيد الإستهلاك عن 1500 مليجرام من الصوديوم في اليوم(حوالي ثلثي ملعقة صغيرة) لدى مرضى إرتفاع ضغط الدم والسود والمسنين ومن بلغوا أواسط العمر.
لماذا يعتبر تخفيض الملح خطراً على الصحة؟
يعتبر الملح مهماً للحفاظ على حجم دم وضغط ملائم ليضمن أن نسجنا تحمل ما يكفي من المغذيات والدم الحامل للأوكسجين. يتكون الملح من أجزاء متساوية من الصوديوم والكلوريد. وعندما نقيس الشوارد في الدم يكون الملح(الصوديوم والكلوريد) هو الشوارد الأكثر شيوعاً. مثلاً يحتوي الدم الطبيعي على الصوديوم بتركيز يقارب 140مليمولليتر والكلوريد بنسبة 100 مليموللتر بالمقارنة مع البوتاسيوم 4 مليمول لتر والكالسيوم 2.2 مليموللتر. ولذا ليس من المستغرب أننا بحاجة إلى الملح بشدة.
لا يوجد تخمين للأسباب التطورية التي يعزى إليها تكون معظم دمنا من الملح. يعتقد البعض أننا تطورنا من مخلوقات وحيدة الخلية في بحار الأرض القديمة. ومع تطويرنا لتعدد الخلايا وانتقالنا إلى الأرض احتجنا لحمل شيء من المحيط معنا على شكل “ماء مالح” داخل عروقنا ولذا شكل الملح معظم الشوارد في الدم. ختاماً الملح أساسي للحياة وليس شراً مستطيراً.
المصدر:
https://medium.com/@drjasonfung/the-salt-scam-1973d73dccd