في عام 1958 بدأ جون كالهون عالم السلوك الحيواني سلسلة تجارب على الفئران . حيث قام بابتكار عالم مثالي تحصل فيه الفئران على وصول سهل و غير محدود للماء والطعام وفرص غير مقيدة للتكاثر ، وحماية من المفترسات والأمراض وتقلبات الطقس بحيث يمكننا تسمية هذا المكان ب” يوتوبيا الفئران ” وبالرغم من توافر كل الإمكانيات المتاحة لتزدهر الحياة داخل المستعمرة الصغيرة إلا أن ما حدث في تجربة الكون 25 أثار ذهول العلماء .
تجربة الكون 25 ( يوتوبيا الفئران )
تعد تجربة الكون 25 هي التجربة الأشهر بين جميع تجارب كالهون، في هذه الدراسة ، أخذ كالهون أربعة أزواج من الفئران القادرة على التكاثر ووضعها داخل اليوتوبيا “ا لمدينة الفاضلة” التي هندسها.
في البداية كان كل شيء على ما يرام ، تكاثرت الفئران بأعداد كبيرة حتى وصل العدد إلى 2200 فأر في مستعمرة تتسع لـ 3000 فأر قبل أن تنقلب النتائج رأساً على عقب ويتحول يوتوبيا الفئران إلى شيء آخر تماماً بعد اليوم الـ600 .
صممت هذه البيئة للقضاء على المشاكل التي من شأنها أن تؤدي إلى الموت في البرية. فالفئران يمكنها الوصول إلى طعام لا حدود له عبر 16 من قواديس طعام ، يمكن الوصول إليها عبر الأنفاق ، والتي من شأنها إطعام ما يصل إلى 25 فأرًا في كل مرة ، بالإضافة إلى زجاجات المياه الموجودة فوقها مباشرة.
تم توفير مواد التعشيش والحفاظ على درجة حرارة الطقس عند 68 درجة فهرنهايت (20 درجة مئوية) ، وهي درجة حرارة الفأر المثالية . وبالطبع كانت هناك حماية تامة داخل الأقفاص من المفترسات بأنواعها .
تم اختيار الفئران التي تتمتع بصحة جيدة ، و التي تم الحصول عليها من مستعمرة التكاثر التابعة للمعاهد الوطنية للصحة. تم اتخاذ احتياطات قصوى لمنع أي مرض من دخول الكون 25.
نتائج غير متوقعة
بدأت التجربة ، كما هو متوقع ، استغلت الفئران الوقت الذي عادة ما يضيع في البحث عن الطعام والمأوى لممارسة الجماع الجنسي المفرط لتتضاعف كل 55 يومًا تقريبًا ، تضاعف عدد السكان حيث ملأت الفئران جزءاً من المساحة المرغوبة ، حيث كان الوصول إلى أنفاق الطعام أمرًا سهلاً.
لكن عندما بلغ عدد السكان 620 ، تباطأ ذلك ليتضاعف العدد كل 145 يومًا ، حيث بدأ مجتمع الفئران في مواجهة المشاكل. انقسمت الفئران إلى مجموعات ، وأولئك الذين لم يجدوا دورًا في هذه المجموعات وجدوا أنفسهم بلا مكان يذهبون إليه، وبدأت تظهر على الفئران حالة غريبة من الفشل الاجتماعي .
ظهر بين الذكور الكثير من الاضطرابات السلوكية مثل النشاط المسعور والعنف من الفئران المسيطرة ووصل الأمر لأكل لحوم الجنس نفسه برغم توافر الغذاء بالإضافة إلى الاضطرابات الجنسية حيث مارس الذكور شذوذاً جنسياً.
بالنسبة للإناث بدأت في غياب الحماية من الذكور تعاني من العدوانية الزائدة داخل العش وفشل حالات الحمل وتوقفت الكثير من الإناث عن رعاية صغارها أو التهمتهم وارتفع معدل وفيات الرضع إلى 96 في المائة.
بينما ظهر نوع من الانسحاب المرضي لدى فئة ثالثة من الجرذان الضعيفة والتي توقفت عن الاختلاط بالأفراد الآخرين والتزاوج مع الإناث وكانوا يخرجون للطعام والشراب فقط بينما يكون باقي سكان المستعمرة نائمين وهؤلاء أسماهم كالهون “الجميلين” فقد كانوا يقضون وقتهم في الطعام و الشراب و تنظيف أنفسهم فقط.
ومع اقتراب المستعمرة بأكملها من الهلاك قام كالهون بعزل أفراد هذه المجموعة في مكان آخر على أمل أن يجعلهم يعودوا للسلوك الطبيعي والتكاثر لكن لم ينجح في ذلك و لم يطرأ أي تغيير على سلوكهم وانتهت التجربة بهلاك جميع أفراد المستعمرة.
التطبيق على البشر
أحد الأمور التي حظيت بنقاش كبير هي هل يمكن أن يعاني البشر نفس المشاكل الاجتماعية إذا تم وضعهم في نفس الظروف وهو ما أثار ذعراً كبيراً في الأوساط العامة .
للتأكد من هذه الفرضية قام عالم النفس جوناثان فريدمان بسلسلة تجارب على طلاب المدارس الثانوية والجامعات، حيث تم وضعهم في أماكن مكتظة وتم قياس مستويات الضغط و الانزعاج و العدوانية و التنافس والشعور العام بعدم الرضا لكن لم يلاحظ أي آثار سلبية تذكر.
هناك من يجادل بأن عمل كالهون لم يكن حول الكثافة بمعناها المادي لكن حول درجات التفاعل الاجتماعي.
يبدو -من وجهة نظري- أن هناك إهمال لعامل آخر مهم وهو التمتع بالرفاهية المطلقة بلا حدود وما يمكن أن يقود إليه هذا النوع من الرفاهية من ملل ورغبة متزايدة في الخروج عن المألوف لكسر نمط الحياة التقليدي وما يستتبعه من كسر الدوائر الاجتماعية التقليدية مثل رابط الأسرة ورابط العلاقة الطبيعية بين الذكر والأنثى ورابط العلاقة الطبيعية بين الأم وطفلها التي قد ترى فيما بعد أن الطفل هو تقييد لحريتها المطلقة وهكذا.
ربما هذا سبب انتشار ظواهر مشابهة في العديد من المجتمعات التي تتمتع برفاهية كبيرة و حرية اجتماعية غير محدودة . في الحقيقة فإن القرآن الكريم دائماً ما يربط بين الترف والخروج السافر عن الطبيعة البشرية وهلاك الأمم وزوال الإمبراطوريات وهي حقيقة أكدها الواقع.
وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا
سورة الإسراء – 16
هندسة المجتمعات البشرية لتحقيق تجربة كالهون لكن !
يعاني عالمنا من مشكلة في الموارد سببه شراهة استخدامها من قبل البشر أحياناً بغير طائل وبما يفوق الحاجة هذه حقيقة، لكن لو دققنا سنجد أن هذا الاستهلاك الشره لا يصب في مصلحة غالبية سكان الكوكب بل يستفيد منه قلة قليلة لا تتجاوز 1% و الذين يملكون أكثر من نصف ثروات كوكبنا . بل إن صحيفة البي بي سي في عام 2019 مقالاً بعنوان “ثروة 26 شخصا “تعادل ما يملكه نصف سكان الأرض” .
هذه الفئة المسيطرة ليست مستعدة للتنازل عن نصيبها في الموارد لذا فربما يكون الحل من وجهة نظرهم هو تقليص أعداد الفئات الأخرى الأضعف عبر سياسات مشابهة لما حدث في تجربة الكون 25 .
اقرأ أيضاً :
تجربة سجن ستانفورد : هل يمكن لإنسان عادي أن يرتكب جرائم ضد الإنسانية
بلا يوتوبيا
الأخطر أنه ربما تتم هندسة المجتمعات حول العالم ليس حتى لتحقيق مقدمات النظام الاجتماعي المتفسخ الناتج عن تجربة يوتوبيا الفئران عبر خلال رفاهية بالغة أو يوتوبيا بشرية للجميع ، بل عبر القفز إلى دعم النتائج الكارثية المباشرة والتي سببت انهيار النظام الاجتماعي في يوتوبيا الفئران والتي نتج عنه تقلص أعدادها ووصول المستعمرة لهاوية الانقراض .
وبدلاً من محاولة استنساخ التجربة منذ بداياتها عبر محاربة الفقر أو حتى محاولة تحقيق رفاهية وحرية مطلقة غير مقيدة والتي بدورها ستقود لأمور مثل الشذوذ والإجهاض وإهمال الآباء وتفكيك النموذج الأسري ، فإن الحل الأقل كلفة هو دعم هذه السياسات الاجتماعية الفاسدة إعلامياً وسياسياً وقانونياً مباشرة للوصول إلى النتيجة المطلوبة بشكل أسرع وأقل كلفة لتقليص النمو السكاني حول العالم .
خلاصة :