كلما فكرت في الأمر أكثر، بدا أكثر تناقضًا. كيف يمكن للذكاء الاصطناعي والرأسمالية أن يتعايشا لفترة أطول.
إذا استبدلت الشركات موظفيها من البشر بالذكاء الاصطناعي، فلن يكون لهؤلاء الأشخاص دخل وإذا لم يكن لدى هؤلاء الأشخاص دخل، فكيف سيتمكنون من شراء المنتجات التي تنتجها الشركات؟
فكلما زاد عدد المطرودين، بمرور الوقت سيقل عدد العملاء المحتملين لهذه الشركات ومنتجاتها بشكل هائل… إنها معضلة حقيقية… فهل لاحظت الشركات الكبرى هذا قبل أن تبدأ في الاستغناء عن موظفيها ؟!
من الصعب تخيل كيف يمكن لهؤلاء الأفراد الأذكياء أن يفشلوا في إدراك أن “ثورة الذكاء الاصطناعي” تلك في النهاية قد تفضي إلى كارثة. لكن وعلى الأرجح ستفكر الشركات على المدى القصير وعلى نطاق عملها ومنافسيها بدلاً من أن تشغل نفسها بمشاكل الكوكب
ثورة الذكاء الاصطناعي
كانت لحظة فارقة حين تم إطلاق روبوت المحادثة شات جي بي تي ChatGPT في عام 2022 والقادر على القيام بأهم الأعمال المكتبية بما في ذلك كتابة الأكواد والبرمجة، وفي غضون أسابيع، انفجر سيل من أدوات الذكاء الاصطناعي المتخصصة وصار واضحاً للعيان أن الذكاء الاصطناعي قادم لوظائف البشر لا محالة. في البداية أصحاب الوظائف المكتبية يليها العمليات الصناعية وأخيراً أصحاب الأعمال اليدوية.
منذ ذلك الحين، خسر آلاف المبرمجون في عمالقة التكنولوجيا والذين ربما من كانوا سبباً في وجوده وظائفهم بالجملة رغم تحقيق تلك الشركات أرباح طائلة بحجة “التوظيف الزائد” خلال كورونا والحقيقة هي أن الذكاء الاصطناعي قد احتل هذه الوظائف مما جعل الكثيرين يعدون من العمالة الزائدة لاسيما هؤلاء الذين لديهم معارضة لسياسات الشركة.
على سبيل المثال لا الحصر، وخلال هذا العام فقط وفقاً لموقع الجزيرة نت:
سرحت مايكروسوفت 1900 عامل قبيل خمسة أيام من الإعلان عن قفزة ضخمة في إيرادات الشركة بنسبة 17.6٪، وسرحت شركة غوغل ألفاً من موظفيها، رغم زيادة بنسبة 13٪ في الإيرادات. وخفضت أمازون ما يقرب من ألف موظف رغم زيادة الإيرادات بنسبة 14% وسرحت شركة ميتا العشرات من الموظفين رغم قفزة الإيرادات بنسبة 25% .
رغم الأرباح الكبيرة التي حققتها الشركات إلا أنها مستمرة في تقليص عدد موظفيها ومع غروب كل شمس يكبر وحش الذكاء الاصطناعي نتيجة لتغذية قاعدة بياناته الهائلة بالمزيد من المعلومات التي يضيفها المبرمجون والمستخدمون على حد سواء.
إذا استطاع الذكاء الإصطناعي أن يحل محل من برمجوه فإن هذا يعني بالضرورة زوال كل حاجز أمامه عن القيام بأي وظيفة يملكها البشر مادام أصبح قادراً على تغيير برمجته ذاتها!
سيأتي من أجلك ...
سيجعلك تبدوا صغيراً وبطيئاً ومترهلاً...
سيزحف إلى كرسيك ويحتل مكانك ...
لن يسمع أحد صوت صراخك أو توسلاتك...
فهو وحده من يملك إيصال صوتك...
لا مبالاة وحلول مجهضة
من وجهة نظر الشركات فإن التفكير في مستقبل البشرية أمر عبثي وغير مربح، الشركات عادة لا تفكر سوى في مستقبلها الخاص ونموها في مواجهة منافسيها، في ظل هذا السباق المحموم فإن كل من يتأخر عن السباق التكنولوجي للذكاء الاصطناعي ربما سيضطر لإنفاق مصاريف أكبر من منافسيه وبالتالي لن يجد مكاناً في السوق.
حملة الأسهم وليس الملاك هم النمط السائد في الشركات اليوم، فمن المنطقي أن هؤلاء غالباً لن يفكروا على المدى الطويل فإذا حدثت خسارة على المدى المنظور، فإن هؤلاء سوف يسحبون أموالهم فوراً ويضعوها في مكان آخر .
على الرغم من ذلك كانت هناك دعوات سابقة لتطبيق ما يعرف بنظام الدخل الأساسي الشامل UBI والذي كتبت عنه في مقالة سابقة في 2017 وهو نظام شبيه بالاشتراكية حيث يحصل الجميع على مدخول مادي ثابت من قبل الدولة عبر ضرائب التي تفرضها على رجال الأعمال، لكن بكل أسف خفت الحديث عن هذا النظام فلا الدول ولا رجال الأعمال لديهم الاستعداد لتحمل هذه الكلفة من أجل حياة البشر ولا حتى القطط !
في الأسفل
في الأسفل بالتأكيد سيقف ملايين وربما مليارات البشر غاضبون ومحبطون بعد فقدان مصدر دخلهم ، ربما يتسبب هذا الاستبدال المبالغ فيه للعمال من قبل الشركات لإشعال ثورة جديدة كتلك التي انبثقت عنها النقابات العمالية ويجبر أصحاب الشركات على دفع ضرائب باهظة لتوفير دخل أساسي شامل لمن فقدوا وظائفهم ومن يفشلون في العثور على وظائف.
أو ربما نرى أساطين الرأسمالية يتمترسون خلف أموالهم وروبوتاتهم وذكائهم الاصطناعي أو حتى أسلحتهم لصد الناس عن هذا الإتجاه ويتحول العالم إلى فوضى، لقد أثبتت لنا دروس الصراعات العالمية وعلى رأسها حرب غزة أن أساطين المال على استعداد لفعل أي شيء وكل شيء للحفاظ على أرباح مرتفعة وضرائب معدومة مهما كانت الكلفه.
قد يتبنى آخرون مسعىً أكثر تكيفاً ومهادنة عبر مبادرات فردية ومجتمعية لصد هجمة الاستبدال تلك وامتصاصها وتحويل الذكاء الاصطناعي ليعمل إلى جانبهم بدلاً من البكاء على لبن الشركات المسكوب.
عمليات التسريح ذاتها قد تخلق تلك طبقة متمردة من مبرمجي الذكاء الاصطناعي الذي نبذتهم الرأسمالية فيتحول بعض منهم إلى أشخاص لديهم إيمان أكبر بالعمل من أجل المجتمع وليس الشركات، وتنشأ مشاريع ومبادرات وشركات أصغر حجماً وأكثر أخلاقية تنظر إلى البعد الاجتماعي في قراراتها وتحظى بشعبية أكبر بين المستهلكين.
ربما يكون جشع الشركات الكبرى ذاتها هو آخر مسمار في نعش احتكارها للأسواق وللعقول النابهة… من يدري …