بقلم أنور الإسماعيل
يقول المعماري الشهير “يان جيل”: مؤشر التصميم الجيد للمدينة هو أن يستطيع الناس ان يلاحظوا شيئاً مثيراً للاهتمام كل خمس ثوانٍ، أثناء تنقلهم بمتوسط سرعة خمسة كيلومترات في الساعة.
كما وأشار العالم الكبير ابن خلدون في مقدمته إلى ما أسماه بعلم (العمران البشري) الى أثر البيئة والعمران في السكان، حيث أوضح فيه أن اختلاف أشكال وأنماط العمران تؤدي الى تنوع واختلاف أنماط حياة السكان بشكل مباشر.
ومع الشوارع المكتظة بالسيارات حيث الضوضاء والتلوث البصري، الروائح الغير مرغوب بها، والأبراج العالية التي أصبحت مسكناً للطيور أو الإنسان وقت الحاجة، تخلت الكثير من مدن العالم عن إيجابية المكان المتفاعل مع السكان، فأصبحنا نشاهد مدناً لا تلبي البعد الإنساني في التصميم، إضافة إلى خلوها من التفاصيل والعناصر التي تغذي الروح.
وعلى أثر ذلك ظهر مفهوم أنسنة المدن في الأونة الأخيرة، ليتمكن الإنسان من الإبداع سواء في مكان العمل، أو المعيشة، بعيداً عن التوتر والتلوث، حيث يحتاج الانسان إلى مدينة تتوفر فيها جو يزرع الراحة والرضا والرفاهية.
ولعل البداية في تبني مفاهيم أنسنة المدن كانت من الدانمارك وخصوصاً من العاصمة كوبنهاجن والتي تحولت من مدينة تعطي الأولوية للسيارة في الشوارع والأزقة إلى مدينة تشتهر اليوم بالفراغات العمرانية التي تلامس حواس الإنسان الخمس.
مفهوم أنسنة المدن يمكن تلخيصه بأنه عملية تحويل المدن الى مدن صديقة وقريبة من الإنسان، بحيث تندمج معه، وتلبي احتياجات معظم فئاته من الصغير إلى الكبير ومن الأشخاص العاديين الى أصحاب الاحتياجات الخاصة، ويكون ذلك من خلال توفير الحدائق أو ساحة للعب الأطفال أو المواقع الأثرية، بل وحتى الفراغات والساحات التي تجمع موظفي الشركات المتجاورة، بالإضافة الى الجوانب الجمالية والفنون لتحسين الهوية البصرية.
وبعيداً عن فوائد أنسنة المدن البيئية والصحية لكافة شرائح المجتمع المختلفة، هناك أهداف اقتصادية أيضاً سواءً كانت عن طريق الحركة التجارية مع توفر البنية الأساسية، والتي تساعد على تحفيز المستثمرين للاستثمار فيها كونها مدن مستدامة. أو سواءً عن طريق البدء بأفكار ابتكارية اقتصادية تدعم السياحة مثل الحفاظ على التراث وتأكيد الهوية العمرانية للمدينة.
يقول “جيل”: لديك الحياة أولاً، ثم لديك مساحة للحياة، ثم تبني المباني على جانب المساحات. وعليه يمكن ترتيب أولويات المدينة الصديقة للإنسان وفقاً لما يلي: الحياة- الفضاء- المباني.
لكن المدن الحالية القائمة في أغلب دول العالم هي نتاج التخطيط العمراني فقط، حيث إنها قائمة على نظريات الحداثة التي اعتمدت على العلوم التطبيقية والمعرفة العلمية كمصدر وحيد في التشريع العمراني في غياب الجوانب الثقافية والاجتماعية وكذلك الأعراف والتقاليد.
الآن يتم التوجه لتصبح المدن نتاج شراكة وتعاون بين السكان والمعماريين والمصممين والفنانين والمثقفين والحرفيين وعلماء الاجتماع.. وغيرهم، لجعل المدينة مكان يشعر به الانسان بقيمته، يتفاعل مع أخيه الانسان، يتغلب على الأمراض التي تحيط به، ويكون قادراً على بناء حاضره ومستقبله.
وعليه بدأت الكثير من الدول بالتحرك نحو تطبيق مفاهيم أنسنة المدن وخصوصاً بعض الدول العربية، ومنها: المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة والمملكة المغربية، بهدف الارتقاء بجودة الفضاء العام في المدن والأحياء السكنية لتصبح آمنة وصحية ومستدامة بيئياً واجتماعياً وحتى اقتصاديا، “فالاستثمار في الأماكن العامة هو استثمار في جودة الحياة” كما يقول مايكل مهيافي أحد أبرز علماء العالم في أنسنة المدن.
وهنا يجدر الإشارة الى أن هذا الأمر يتطلب الكثير من التعاون وتضافر الجهود بين البلديات وجهات التخطيط والتصميم وكليات الهندسة، الى جانب التعلم والتطور المستمر، واكتساب التجارب، مع المحافظة على ذاكرة وهوية المكان، وألا تطغى المشاريع على الهدف.
أنور الإسماعيل
[email protected]
اترك تعليقاً