أكاسيوس - قصة قصيرة 2

أكاسيوس

أسطورة الفقر
(1)
المكان : انجلترا ، الزمن : العام 1800 ميلادية
الحدث : انضمام أيرلندا لحلف المملكة البريطانية وإصدار عفو عن بعض السجناء المتسللين غير شرعياً لحدود البلاد .
صباح مشمس بعد ليلة مطيرة أغرقت شوارع لندن ، جففتها حرارة الشمس وضوء النهار ، زحام في شوارع المدينة ، حديث الأسواق وشأن أيرلندا الجديد ، يعارضون ، يوافقون ، أو يخافون الحديث في مثل تلك الشئون ، شارع مرصوف تمتد فيه أقدام الخيول محدثة صوتاً متقطعاً معدنياً ، لسعة برد وشبورة تنتظر من بعيد إنذاراً بعاصفة مطيرة أخري ، خمسة أطفال يقفون في زاوية الطريق : أكاسيوس ، روفندوج ، ماثيو ، آدم ، اجناسيو هيئاتهم رثة . أكاسيوس قصير وبه امتلاء ، أشعث الشعر ، أصفر الوجه إلا من بعض الحمرة التي تكسو خديه ، أنف طويل ، قدمان نحيلتان وسبعة عشر عاماً لم يتجاوزها ، أيرلندي الأصل تسلل مع أخيه الأكبر رونالد قبل عشر سنين داخل صندوق خشبي في سفينة حملت بضائع وكبار الزوار من أيرلندا ، السمة المشتركة بينهم جميعاً هي اتساخ الثياب يبدون في مثلها كأطفال الغجر والمنبوذين وفقراء المقاطعات اللندنية ، رقُعاً في ملابسهم تركت منفذاً للهواء البارد ليظفر بالعظام ، حٌفي القدم . يوم الأحد ، تستعد كنائس المدينة لإقامة قداس جديد ، وكأنه عيد ، الثياب الجديدة كست أجساد النبلاء وأبنائهم من أكابر المدينة ، يقف الفريقين علي جانبي الطريق أكاسيوس ورفاقه وعلي الناحية الأخرى زوار كنيسة سان سلفادور من رجال البلاط وأسرهم القادمين لحضور القداس والتبرك وإنشاد الترانيم . أكاسيوس لا يأبه بكل هذا ، تلك الخيلاء التي اعتلت وجوه القادمين وسكان المدينة ، لا حاله ولا حال رفاقه ، يخطو خطوات حثيثة حتي آخر الشارع مروراً بشارع جانبي آخر حيث يقع في آخره سجن المدينة تالي علمه بورود اسم أخيه رونالد ضمن المفرج عنهم ، طبقاً للتحالف بين البلدين . أجراس السان سلفادور تحدث دوياً وصدي إيذاناً ببدء القداس يهز أرجاء المدينة وروادها من المدن الأخري ، ويبدأ الشمامسة في إنشاد الترانيم بحلي بيضاء كالسحاب ووجوه نضرة وأصوت تقاطعت في حس واحد :
_ أيها الرب ، أيها الأب ، أيها الرحيم ، ارحم الضعيف والمريض والسقيم ، بارك الزروع ، آمن في الفلك المراكب والقلوع ، باركنا يا يسوع . 
أرصفة أسمنتية مستطيلة ، باردة تكتم صوتاً ساكناً في جوفها سوي ما تحدثه أقدام الخيول علي ظهرها وسير يتسارع من عربات النبلاء أملاً في اللحاق بما تبقي من مراسم القداس . كان علي أكاسيوس أن يتأرجح بين جانبي الطريق تحاشياً لصدام قد يودي بحياته ، المواكب الملكية . السير روتنجون أحد المتأخرين أيضاً ، أحد أشراف البلاط ، ثخين يتدلي منه كرشاً يبدو به كامرأة حامل كما كان يصفه آدم ، أصلع ذو رأس مستدير ، يضع عدسة مكبرة علي عينه اليسري تحاشياً لظهور الحول الذي طالما أخفاه ، يخط شاربه علي جانبي أنفه ، يبرمه في زهو . وقف أكاسيوس يتطلع بنظرات متقطعة من الجانب الآخر لأخيه رونالد ، يتحرك بعرض الشارع عبوراً لعناق أخيه ، الخروج من الأفق إلي اللا أفق ، عناق ينسي به ، ينسيه ، شيء يحنو ، أيام النوم في ليل الغابات الموحش ، البارد ، شرودأً ، تأمل دام عشر سنين ، روبن هود اللذي انتظره ولم يأتي ، عينان تبرقان بأمل ، قدمين تسوقان إلي السعادة ، وضربة سوط علي ظهر الخيل الذي يجر عربة السيد روتنجون أمراً منه إلي سائقه بالإسراع ، يصطدم الخطو البطيء لـ أكاسيوس مع مقدمة العربة ، يسقط عرضياً وتمر فوقه العربة ، تمزقت أحشاؤه . جريدة لندن صبيحة اليوم التالي خط عريض ولون أحمر ولم يُعلم حتى الآن لماذا اللون الأحمر هو لون مانشتات الجرائد ، ثم الخبر : شاب غجري يسقط تحت عجلات عربة السيد روتنجن ، بعد مطاردة مع الشرطة ، السيد روتنجن : نحن في خدمة العدالة . وداست العدالة علي البشر .
(2)
_ التاسعة مساءاً ، المكان مكتظ ، الأضواء تشع من خلف زجاج أحد المعارض ، انعكس علي أزياءه ، ولون خمري كتب علي الزجاج SALE ، إعلانات هنا وهناك ، الناس يسيرون في انبهار لما يعرض أمامهم ، ليس سيركاً في ميدان عام ، المدينة تبدو أكثر زهواً ، ليلاً ، تخرج الصبايا بأبهي الزينة ، ويخرج الفتية بحثاً عنهن ، تفتح المحلات أبوابها علي مصاريعها ، استقبالاً لزوار جدد وربح جديد ، أسير خلف أناس وأمام أناس أخري ، تتقاطع المشاهد ، ترتجف الجفون لعجزها عن مواجهة كل تلك الأضواء والأصوات الصاخبة . سؤال : العدل والقوة أم الظلم والرحمة ، لا يهم . كان يجلس القرفصاء يرتدي جلباب ريفي فوق صُديري يقاتل به الليلة الباردة يدفع عن ما تبقي من جسده هجماته القارصة ، معصوب الرأس ، له لحية كثة ، ينتعل حذاءاً قماشياً ” بَنْص ” ، موضوع أمامه صندوق كرتوني فوقه بعض أكياس المناديل ، يشيح بها للذاهب والآيب :
_ مناديل ، مناديل 
تجاوزته بضع خطوات ثم تراجعت ، الصوت يخرج وكأن غصة في حلقه ، أو حشرجة ، لا أدري ، يلوح بيدين عاليتين كمن ينادي في زهو : ها قد قمت بكم ، ها قد ظفرت بكم وكذا ، ومما لا يدع مجالاً للشك أنه يمارس مثل تلك المهن التي لا تدر ربحاً ، لتغيير عادة ، أو أن يكدح كالكادحين ، خطوات قليلة وقفت بمواجهته ، تأملت ، أطلت التأمل وهو مازال يشيح وينادي : 
_ مناديل ، مناديل يا أستاذ ، مناديل يا آنسة ثم سكت .
بدت كنهفة للتندر والمزاح ، لا يترك الناس بلدانهم إلا في حاجة ، الفقر هو من هرب اكاسيوس وأخيه عبر صندوق في سفينة .. المناديل كما هي ، البرد يشتد ، مازال يلوح بمناديله الورقية ، الشارع يوشك علي الفراغ ، أرتدي معطفي الجلدي وأجول بحثاً عن مشروب ساخن يُدفئ ، ما زال مكانه ولكنه توقف عن التلويح ، استلقي علي جانبه تحت زجاج المعرض ، اقتربت وتفحصت وجهه جيداً ، شفاهه الجافة وجسد يرتعش ، كرش يتدلي علي استحياء اكتسبه أيام العز – الشباب- كالذي يملكه السيد روتنجون ، يضم قدمه إلي صدره أملاً في الدفء ، الفجر ، المساجد تعلن النداء ، اقتربت مرة أخري ، أربت علي كتفه ، أنادي ، أهزه كي يستفيق ولكن لا حركة …. مات . غطيت الجسد بزوج من أوراق جريدة رسمية ، كتب عليها : مشروع حكومي وجهود مدنية لإيواء المشردين ، ثم رحلت .
_ أسطورة أكاسيوس ليست حقيقية ، مختلقة ، وكما أن الناس يحملون أسماء أماكن يعيشون فيها فقد أسميت البطل الثاني باسم المتجر الذي مات علي عتبته … أكاسيس .


كتبت في : 27 فبراير للعام 2014 ميلادية 

اكتشاف المزيد من مجلة رؤى

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5 × 2 =

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

اكتشاف المزيد من مجلة رؤى

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading