كنتُ مرهقاً بعد يومٍ طويلٍ شاقّ وأنا أراقب الأعمال الكاملة قبل أن يظهرَ صاحبُها.
وأكثر ماأضجرني تلك المقابلة الإذاعية التي دامت ساعتين من أجل تسجيل لايتجاوز عشرين دقيقة، ومردُّ ذلك إلى أنّني كلما قلتُ شيئاً يحسبُه المذيعُ ممنوعاً، يوقف التسجيل لنعيدَهُ مرّةً أخرى بحيث يخلو من الأفكار الممنوعة أو الكلماتِ التي قد تجرح شعور الرقيب. ولم أدرِ حتّى الآن أيَّ رقيبٍ يعني.
ولأن معجمي اللغوي مكتظٌّ بالسواد، كنتُ في كلّ مرّة أتجاوز الخطوطَ الحمراءَ التي قد تَمَسُّ بعضَ المسؤولينَ عن انحطاطنا، وكان المذيع مصِرّاً على حذف مايراه ممنوعاً، ومُصِرّاً على إجراء المقابلة أيضاً.
وهكذا عانينا معاً من شبحِ قائمةِ الممنوعاتِ التي زرعها مجهولٌ في قلوبِ أفكارِنا، ولم نعد ندري ماالذي يمكن أن يُقالَ بعد ذلك.
هذه مشكلة .. والمشكلة الأخرى أن ممنوعاتِ الإذاعة تختلف عن ممنوعات الصحافة التي تختلف عن ممنوعاتِ الكتب والمحاضرات.
ولقد أرهقني جمعُ المقالاتِ التي ردّها رؤوساء التحريرِ إليَّ بعد أن وضعوا تحت بعض الجملِ خطوطاً حمراء ورغبوا إليَّ بتعديلها، ومن ذلك ماأوردتُهُ في إحدى المقالات حين وصفتُ السلطان عبدالحميد بالاستبداد.
وهكذا فإنَّ تجربتي مع بعض مراكز الإعلام جعلتني مؤطَّراً في مايمكنُ أن أقولَهُ.
أمامي الآن الأعمال الكاملة للكواكبي .. فما الذي يمكن أن أقولَهُ عنه، ويكون على علاقةٍ بالعصر، ولا يتجاوزُ الممنوع ؟
إنَّ محاضرةً واحدة لن تستطيع أن تفيَ الكتابَ حقَّهُ، ولا بُدَّ لي من أن أتناولَ كتاب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) وكتابَ (أم القرى) وصحافةَ الكواكبي في جرائد (الشهباء) و (اعتدال) و (جريدة العرب) وأقولَ فيها أشياءَ أرى أنَّها مهمّة، فكيف أفعلُ ذلك؟
وفيما أنا أعاني التأرجحَ بين الفِكَرْ إذ بشخصٍ ملتحٍ تعلوهُ علائمُ البِشر يبتسمُ وهو يسألُني عن سبب حَيرتي وارتباكي.
سألتهُ مندهشاً مِن زائرِ الليل : – ومَنْ أنت ؟
جلس وهو يقول: – أنا العبد الفقير لله الإمام عبدالرحمن الكواكبي.
قلت له: لقد وضعتني في مَأْزِقٍ حَرِجٍ أيُّها الشيخُ الجليل.. كيف أتحدَّثُ عن أعمالِك وأمامي آلافُ الممنوعات، وأمّي ماتنفكُّ تسألني :
– كم ستجني من هذا السهر (قوم نام وريّح جثتك).
قال: – ولا يهمّك .. في زمني كان الأمرُ كذلك أيضاً.
قلت: – وهل لديك حلٌّ لتجاوز هذه المشكلة.
ضحك: – الحلّ دائماً موجود .. والمهم أن تعرفَ ماذا تريد. لقد واجهتُ مثلَ هذه الظروف حين كنت أشتغلُ على كُتُبي وصحافتي. كانت زوجتي تتحسَّرُ عليَّ وعلى مستقبلي وهي تقول: – كيف تضيِّعُ أوقاتَك بين الأوراق في مسائل مُهلِكة بدلاً من أن تقومَ بعملٍ مفيد؟. ويبدو أنَّ الأمرَ كذلك معكَ أيضاً.
قلتُ له: ولكنَّني الآن بصدد مشكلة أخرى وأخشى أن أتورَّطَ في جنونٍ أندمُ عليه.
همس لي: – قل على لساني: جاءني عبدالرحمن الكواكبي، وطلبَ إليَّ أن أتحدَّث معه حول مسائلَ تهمُّ الأمَّة.
قلتُ له: منذ زمن طويل وأنا أرغب في إجراء حوارٍ معك حول كثير من المشكلات التي نعانيها، ولكنني لم أجد المناسبة.
قال: المناسبة موجودة .. بمناسبة مرور مئة عام على صدور كتابي (طبائع الاستبداد).. ثم اجعل الحوار مشروعاً يمكن تقديمه بعد عامين بمناسبة مرور مئة عام على وفاتي. بعد صمت قصير، اقتنعتُ بحجّتِهِ، وهأنذا أحقّقُ رغبتَهُ، وأحمّلُهُ مسؤوليَّةَ أقواله.
وبدايةً نذكّركم بسيرةٍ موجَزة عن حياته :
وُلد عبدالرحمن بن أحمد بهائي بن محمد بن مسعود الكواكبي بحلب في /23/ شوال سنة (1271- 1855م) لأسرة عربية قديمة في حلب، قيل إنّ جذورها تمتدّ من جهة الأب إلى عليّ بن أبي طالب. وتمتدّ من جهة أمّه عفيفة بنت مسعود آل نقيب إلى محمّد بن الباقر بن علي زين العابدين بن الإمام الحسين الشهيد.
توفّيت والدته سنة (1276هـ 1859م) وهو في الخامسة من عمره، فكفلته خالته صفيّة آل نقيب واصطحبته إلى أنطاكية، وهناك تعلّم القراءة والكتابة والتركيّة وحفظ شيئاً من القرآن الكريم. ثم عاد إلى حلب وأكمل تعليمه مع شيء من الفارسية، مدّة عام تقريباً، ذهب بعده إلى أنطاكية ثانيةً لدراسة العلوم، ثم استقرّ في حلب سنة (1282هـ= 1865م) فدخل المدرسة الكواكبيّة التي كانت تتَّبع مناهجَ الأزهر في الدراسة، وكان أبوه مديراً لها. وهناك تابع دروسه في الشريعة والأدب والفارسيّة، كما درس بعض علوم الطبيعة والرياضة. لكنّه لم يكتفِ بذلك، بل راح يعبّ من علوم السياسة والمجتمع والتاريخ والفلسفة.
وأوّل مادخل الحياة العمليّةُ عُيّن سنة (1289هـ= 1872م) محرّراً في صحيفة “فرات” الرسميّة الناطقة بلسان الحكومة العثمانيّة، وكانت تصدر باللغتين: العربيّة والتركيّة. واستمرّ بالعمل فيها
حتى سنة (1293هـ= 1876م). ولأنه رأى أنّها لاتحقّق طموحاته في إعلان الحقيقة على الجماهير، هجرها ليُصدر صحيفة “الشهباء” الخاصّة بالاشتراك الصوَري مع هاشم العطّار سنة (1294هـ = 1877م) وكانت أوّل صحيفة عربية مستقلة تصدر في حلب. ولم يصدر منها غير /16/ ستة عشر عدداً فقط، إذ أغلقها والي حلب (كامل باشا) القبرصي، لمّا وجد أنّها تنتقد سياسة السلطنة العثمانيّة. وربّما أرادت السلطة أن تشغله عن توعية الناس فعيّنته سنة (1295هـ= 1878م) عضواً فخرياً في لجنتي المعارف والماليّة. لكنّه لم يُغرَ بالمنصب ولم ييأس من الإصلاح فسعى سنة (1296هـ= 1879م) إلى إنشاء صحيفة “اعتدال” باللغتين: العربيّة والتركيّة، لكنّها، هي الأخرى لم تستمر إذ صدر منها عشرةُ أعداد ثمّ أوقفتها الحكومة لجرأة صاحبها في انتقاد سياستها.
وحاولت الحكومة إسكاته بالمناصب فعيّنته في لجنة المقاولات والأشغال العامّة، وقلّدته رئاسة قلم المحضِرين في الولاية، ثمّ عضويّة لجنة امتحان المحامين. كما عُيّن سنة (1299هـ = 1881م) مديراً فخرياً للمطبعة الرسمية، ثمّ ثامن رئيس لبلديّة حلب.
وفي سنة (1300هـ = 1882م) توفّي والده ممّا أثّر في نفسه كثيراً، لكنّه لم ينزو واستمر في نُصرة المظلومين، وانتقاد السلطنة، واستمرّت الحكومة في إغرائه بالمناصب ففي سنة (1304هـ= 1886م) عيّنته عضواً في محكمة التجارة، ثم رئيساً لغرفة التجارة بحلب (1310هـ= 1892م)، ورئيساً للمصرف الزراعي، ثمّ رئيساً لكتّاب المحكمة الشرعيّة (1312هـ= 1894م)، وأعادته سنة (1314هـ= 1896م) رئيساً لغرفة التجارة بحلب، ورئيساً للجنة بيع الأراضي الأميرية.
لكنّ أيّاً من تلك المناصب لم يثنه عن عزمه في نقد السلطة القائمة والتصدي للخدمة العامّة إذ فتح مكتباً لنصرة المظلومين حتى لُقّب بأبي الضعفاء ممّا أغضب الولاة فسعوا للإيقاع به، فقد استغلّت السلطة محاولة اغتيال والي حلب (جميل باشا) وألقت القبض على الكواكبي بتهمة التحريض على قتله، ولكنّ ساحته بُرّئت وعُزل الوالي. ثمّ اتّهمته الحكومة بالاتصال بدولة أجنبية، على لسان والي حلب (عارف باشا)، الذي اتّهمه بالاتفاق مع دولة أجنبية على تسليم حلب، وبإقامة منظّمة سرّية تناوئ نظام الحكم، وحُكم عليه بالإعدام أمام محكمة حلب المتآمرة مع الوالي، لكنّ الكواكبي قدّم تظلّماً ورفض المحاكمة في حلب، كما قامت مظاهرة في حلب تطالب بالإفراج عنه، فاضطرت السلطنة إلى إعادة محاكمته في بيروت، حيث قدّم دفاعاً شخصياً عن نفسه، فبُرّئت ساحته وتبيّن تزوير الوالي الأوراق التي اتّهمه بوساطتها، وعُـزل.
وفي أثناء تلك الأعوام، الصاخبة من حياة الكواكبي، التي تعرّض فيها للظلم والسجن وصودرت ممتلكاته، كان يضع فصول كتابه ” أم القرى ” الذي قال (كامل الغزّي) أنّه اطّلع عليه في حلب، وقال ابنه (الدكتور أسعد الكواكبي) أنّه بيّضه له وهو في حلب. كما كان يضع بعض أفكار كتابه الثاني ” طبائع الاستبداد “. ولكي يتخلّص من إلحاح السلطة العثمانيّة عليه بالتعامل معها، إذ سلّمته قراراً بتعيينه نائباً شرعياً في قضاء “راشيّا ” في ولاية “سورية” ، فتظاهر بالموافقة، وقرّر الهجرة إلى مصر سرّاً، بحجّة أنّه سيقوم بزيارة إلى “استانبول”.
وصل إلى القاهرة في منتصف شهر تشرين الثاني سنة (1317هـ = 1899م)، حيث التقى بالمفكّرين والأدباء، وشارك في الحركة الفكريّة في “مصر”، وهناك ذاع صيته إبّان نشره مقالات “طبائع الاستبداد” في صحيفة “المؤيّد” لـ (علي يوسف)، وبعد إصداره كتاب “أم القرى” باسم مستعار هو (السيّد الفراتي)، ثم أصدر “طبائع الاستبداد” تحت اسم (الرحالة ك)، وكتب فصولاً من ” أم القرى” في صحيفة “المنار”، سنة (1318هـ = 1900م) بعد حذف اقترحه (محمد رشيد رضا) تحسّباً من السلطة.
وفي سنة (1319هـ= 1901م) قام برحلة اطّلاعيّة إلى البلاد العربيّة والإسلاميّة، ليدرس أحوالها، وهناك دوّن خواطره ليُصدرها في كتاب، ولكنّ وفاته المفاجِئة حالت دون ذلك. فقد توفي مساء الخميس في (6 ربيع الأول سنة 1320هـ)، الموافق (14 حزيران عام 1902م)، على إثر احتسائه (فنجان قهوة) في مقهى (يلدز) قرب حديقة (الأزبكية) بالقاهرة. وقيل إنّه مات مسموماً على أيدي أعوان السلطان (عبدالحميد الثاني)، الملقّب بالسلطان الأحمر، الذي أرسل من دسّ له السم في فنجانه. فبعد أن احتسى القهوة، بنصف ساعة، أحسّ بألم في أمعائه، فانتقل إلى داره، وكان معه ابنه (كاظم)، ثمّ، في منتصف الليل، ذهب ابنه لإحضار الطبيب، ولما عاد ومعه الطبيب وجداه ميتاً. وفي اليوم التالي أمر السلطان (عبدالحميد الثاني) أحد أعوانه (عبدالقادر القبّاني) صاحب “ثمرات الفنون” التي كانت تصدر في بيروت، أن يقصد محلّ إقامة الكواكبي، ويحرز جميع أوراقه، ويرسلها إليه.. وقد فعل ذلك في اليوم التالي لوفاته.
وحدّثني حفيده (الدكتور عبدالرحمن الكواكبي) أنّ مخطوط (طبائع الاستبداد) المعدّل رماه عمّه (كاظم) في صندوق القمامة فلم يُعثر عليه، وأحضره معه بعد انتهاء التفتيش ومصادرتهم كلّ مافي البيت من أوراق، من بينها مسوّدات كتابيه “العظمة لله” و “صحائف قريش”.
حزن الأدباء والمفكرون لفقده ورثاه كثيرون. ومما قاله فيه مصطفى صادق الرافعي:
سلوا حامليه هل رأوا حول نعشه
وهل حملوا التّقوى إلى حفرة الثّرى
وهل أغمدوا في صدره صارماً إذا
فكم هزّه الإسلامُ في وجهِ حادثٍ
أرى حسراتٍ في النفوس تهافتت
ملائكةً من حاربٍ حلف حارب
وساروا بذاك الطود فوق المناكب
تجرد راع الشرق أهل المغارب
فهز صقيل الحدِّ عضبَ المضاربِ
لها قطع الأحشاء من كلِّ جانبِ
ودُفن في قرافة باب الوزير على سطح جبل المقطّم، وبعد أربعين عاماً نقلت رفاته في احتفال ديني إلى مقبرة المشاهير في شارع العفيفي بمنطقة باب الوزير، وكُتب اسمه وتاريخ وفاته وتاريخ نقله، على صفحة من المرمر، كُتب عليها بيتان لحافظ إبراهيم :
هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى
قفوا واقرؤوا ” أمّ الكتاب ” وسلّموا
هنا خيرُ مظلومٍ هنا خير كاتب
عليه فهذا القبر قبر الكواكبي
بعد قرون من الانحطاط الذي تعانيه الأمتان العربية والإسلامية، تعود إلى الذاكرة آخر تجربة فريدة شهدها المجتمع الإسلامي حين ولّي الخليفة الأموي الثامن عمر بن عبدالعزيز شؤون المسلمين في القرن الثامن الميلادي، وعمل هو ومن معه على استئصال شأفة الفساد وبسط معالم حكومة شورية تراعي أحوال الأمة وتعامل الناس على أنهم بشر يتمتعون بكرامة. حيث أدرك أن على الحكومة الحرص على حراسة كرامة الناس وسط بيئة تسامحية قلّ نظيرها في التاريخ العالمي.
وبعد مرور قرن على صدور (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) للمفكّر المتنوّر عبدالرحمن الكواكبي،نتساءل عن سر تدهور الأوضاع العربية والإسلامية بدلاً من تطوّرها، ممّا يدلّ على أن التاريخ لايسير دائماً إلى الأمام وأن التقدّم نحو الأفضل ليس صيرورة حتمية مالم يترافق مع إرادة صانعة له.
حول طبائع الاستبداد وممارسات القائمين عليه والداعين له، كان لنا هذا اللقاء الافتراضي مع عبدالرحمن الكواكبي بعد مرور قرن على وفاته شهيداً لحرية الفكر والتعبير على أيدي طغاة التاريخ الذين يتوالدون كالميكروبات في جسم العالم.
* بداية نسأل الإمام الكواكبي وقد مضى قرابة قرن ونصف على ولادته (9 تموز 1855م)، ماهي أسباب مانحن فيه من تخلّف حتى فقدنا إنسانيتنا وتحوّلنا إلى مجرد أرقام تتحرك وفق مايُملى عليها، وما هي الجهة التي تشلّ حركتنا لنمسي غير قادرين على الفعل في محيطنا المعاصر ؟
** إن البلية فقدُنا الحرية. إن المنشأ الأصلي لكل شقاء بني حواء هو انحلال السلطة القانونية لفسادها، أو لغلبة أشخاص عليها. وهذا الفتور الذي نعانيه إنما ينشأ من أسباب كثيرة وكلها ترجع إلى ثلاثة أنواع: وهي أسباب دينية، وأسباب سياسية، وأسباب أخلاقية. إنما لابد أن نلاحظ السبب الرئيس الذي يتحكّم في جملة الأسباب الأخرى ويوحّدها فينتشر الفساد، وهذا السبب هو الاستبداد.
* هل لك أن تعرّف لنا الاستبداد ؟
** الاستبداد لغةً هو غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النصيحة، أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة. أي هو استئثار المرء بالحقوق العامة لنفسه،تلك الحقوق التي يتوجب عليه أن يشارك الآخرين فيها. وأقصد بالاستبداد عموماً استبداد الحكومات وقد تمحّص عندي أن أصل الداء هو الاستبداد السياسي وهو صفة للحكومة المطلقة العنان التي تتصرّف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب، بل يمكنها أن تضع القوانين التي تشاء، وتبطلها حين تشاء. إن الناس وضعوا الحكومات لأجل خدمتهم، والاستبداد جعل الرعية خادمة للرعاة.
* كيف يمكن أن نفرّق بين الحكومة الشرعية العادلة والحكومة المستبدة، وهل يتجسّد الاستبداد في شخص واحد، أو في شكل واحد للحكم ؟
** الحكومة قد تتخذ لنفسها أشكالاً متعددة مع أن جوهرها واحد هو الاستبداد. إن صفة الاستبداد، كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولّى الحكم بالغلبة أو الوراثة، تشمل أيضاً الحاكم الفرد المنتخَب متى كان غير مسؤول … [ صمت الكواكبي برهة وهو يتأمّل ثم قال ] وتشمل أيضاً الحكومة الدستورية المفرّقة فيها بالكليّة قوة التشريع عن قوة التنفيذ وعن القوة المراقِبة.
* ولكن كيف يمكن للمستبد أو للحكومة المستبدة أن تستمر فترة طويلة في الحكم، ألا يوجد أحد من المستَبدِّ بهم قادر على مواجهة الحاكم الظالم. ثم ألا يمكن أن يكون الحاكم محكوماً بأعوانه الذين يخفون عنه حقيقة الظلم الذي يعاني منه مواطنوه في ظل حكم يتّصف بالطغيان، وهل يخاف الحاكم بأمره اللهَ أم الأعوان أم الشعب؟
** المستبد في لحظة جلوسه على عرشه، ووضع التاج على رأسه يرى نفسه كان إنساناً فصار إلهاً لايُناقَش ولا يُعصى له أمر، ولعلمه بأنه ناقص وأن قدراته لاتتجاوز الفعل الإنساني، بل تتحكم به الغريزة العدوانية ومرض البطش الذي تترفع عنه بعض الحيوانات؛ لذلك فإن الجالس على العرش ترتعد فرائصه خوفاً من رعيته، ويدرك بما
يعلمه عن نفسه من ظلم وتعسّف، بأن الرعية قد تجرّده من تاجه في أي لحظة، لذلك فإنه يستعين بأظلم الناس ممن يثق بأنهم على شاكلته، لردع من تسوّل له نفسه دفع الظلم أو ردّ الطغيان. فينشئ جيشاً من المستبدين الصغار. [يصمت الكواكبي برهة ثم يبتسم وكأنه يريد أن يغنيه التلميح عن التصريح، ثم يقول] إن المستبد لايخرج قط عن أنه خائن خائف محتاج لعصابة تعينه وتحميه فهو ووزراؤه كزمرة لصوص: رئيس وأعوان. ولا يلبث أن يتخوّف حتى من أعوانه الذين تعوّدوا أن يرتكبوا كلّ جريمة لحسابه، فيخشى أن ينقلبوا عليه بما يعرف عنهم من أخلاقهم، فيحاول تنحيتهم والقضاء عليهم وبذر الفتن بينهم حتى لايتّفقوا عليه. والمستبد يوهم الناس، عن طريق التنكيل بأعوانه، بأنه صالح عادل، وأن مساعديه ووزراءه هم الأشرار الذين يرتكبون الفواحش في غفلة منه. وكثيراً مايصدّق الناس متناسين أن المستبد هو الذي يعيّن هؤلاء المساعدين والوزراء الأشرار، بل هو الذي اختارهم وهو يعلم بأنهم يحملون تلك الصفات لتبقى ملفّاتهم بين يديه يستخدم منها مايشاء وقت مايشاء ليقدّم أكباش فداء ويحاول تبييض صفحة حكمه كلّ حين على حساب هؤلاء الذين يُعَدّ لهم الدرك الأسفل من النار.
* ولكن ياسيدي، ألا يوجد حول الأمير بعض المصلحين الذين يمكن أن يدلّوه على الطريق الصواب ؟
** المستبد أحمق لأن عقله يبقى يجترّ معارفه الأولى فقط، بسبب أسلوبه الاستبدادي في التفكير، أوّلاً؛ ولنفاق الآخرين الذين يجارونه في أخطائه ثانياً، لأن كل من يحيط به يخشى أن يَدُلَّه على صواب الطريق، فيما يخالف رأيه، فيفقد رأسه أو مركزه. لذا فإن المستبد، خلال حكمه كله، يبقى يخبط خبط عشواء غير دارٍ الفرق بين الصواب والخطأ. إن مستشاري المستبِد لايصرّحون بآرائهم الفعلية، وهم لاينفكّون يحاولون استنتاج
مايريد المستبد أن يقولوه فيُدلون به على أنه رأيهم. لذلك حقَّ القول: “إن الصدق لايدخل قصور الملوك “، مما يجعل الخطأ يجرّ الذي بعده إلى أن يصبح عقل المَلك (= المستبد) مشوّشاً مضطرباً يداخله الخبَلُ إلى أن ينتهي بالجنون، مالم يُنهَ بطريقة أخرى. ذلك فضلاً عن أنه يبقى طوال حياته أشقى الناس عيشاً وأتعسهم فكراً وروحاً .
* ولكن ماصفات الأعوان – الأعيان، كيف يعيشون، ويكف يفكّرون، وكيف يختار المستبد أعوانه؟
** إن المستبد يحرص على أن يكون أعوانه من حثالة المجتمع، ويحفظ لهم مراتبهم الوظيفية على هذا الأساس بحيث يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفة وقرباً، ولهذا
لابد أن يكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة. ذلك ليتمكّن من تسليطه على رقاب الناس، وهو على يقين بأن هذا الشخص وأمثاله لن تأخذهم الرأفة بأحد، ولن (يعصوا) لمولاهم أمراً يشمّ فيه رائحة الدم والانتقام إن أكابر رجال عهد الاستبداد لاخلاق لهم ولا ذمة، فكل مايتظاهرون به أحياناً من التذمر والتألم يقصدون به غش الأمة، معتمدين على أن الاستبداد قد أعمى بصر الأمة وسهّل غشّها، لذلك فهم يتبجّحون كذباً بأنهم هم الذين سيغيّرون الأوضاع، وأنهم فقط ينتظرون الفرصة السانحة، وهم في الواقع يبتغون تثبيط عزائم الناس وامتصاص ثورات غضبهم. وهؤلاء المخادعون جبناء مرتشون، وما ثروتهم المكدسة إلاّ من السرقات المسوح بها في عهد الاستبداد، وما هم إلاّ فخورون بمشاركة المستبد في امتصاص دم الأمة، ذلك بأخذهم العطايا الكبيرة والرواتب الباهظة ، وهم يتصدقون بالقليل، وقد يشاركون في بناء المعابد سمعةً ورياءً، “وكأنهم يريدون أن يسرقوا قلوب الناس، بعد سلب أموالهم، أو أنهم يرشون الله، ألا ساء مايتوهّمون “. أكرّر ثانيةً : إن وزير المستبد لابد أن يكون مستبداً مثله، يحمل سيف المستبد ليغمده في الرقاب بأمر المستبد لا بأمر الأمة […] لما يعلم من نفسه أن الأمة لاتقلّد القيادة لمثله . وبعد أن يألف عمّال الاستبداد لذة البذخ والجبروت، لايمكننا أن نصدّق مايبديه بعضهم من تبرّم، من أسلوب الحكم، ومن اهتمام بمصالح الأمة، إذ كيف يمكن المستبد أن يرضى بالدخول تحت حكم الأمة ويخاطر بعرض سيفه عليها فتحلّه أو تكسره تحت أرجلها. إن تلوّم المستبدين – الأعوان على المستبد الأكبر إن لم يكن خداعاً للأمة فهو حنق على المستبد لأنه بخس ذلك المتلوِّم حقه فقدّم عليه من هو دونه في خدمته بتضحية دينه ووجدانه . إن المستبد وأعوانه ماهم إلاّ جماعة متكاتفة على ظلم الناس، متعاونة على ايقاع الاستبداد على الآخرين.
* كيف يؤثّر الاستبداد في حياة الناس، وكيف يعيشون في ظله، وهل يمكن أن يمتد تأثيره إلى العلاقات الاجتماعية بين الناس ؟
** إن المستبدين وشركاءهم غيّروا الدين وحرّفوه ليخدم مصالحهم. وقد منع الاستبداد الحكماءَ من تفسير قسميَ الآلاء والأخلاق من القرآن، ومنع العلماء من استخراج مافيه من معانٍ علمية أثبتها العلم على مر الزمان. وذلك كلّه ليبقى التفسير المشوّش، الذي يحمي مصالحه، سائداً . إن التفسير المدقق الصحيح للقرآن ينشر العلم والوعي الديني بين الناس على حين لايناسب غرض المستبدّين أن يعلم عبيدهم أن لاسيادة ولا عبودية في
الإسلام ولا ولاية ولا خضوع. وهكذا فإن الاستبداد يلعب بالدين فيفسده، ويولد الفتن التي لاحياة له من دونها.
كما يؤثر الاستبداد في العلم سلبياً حيث يحاول المستبد أن يبقي الرعية في حالة جهل حتى لاتعرف معنى الحرية ومعنى المشاركة في الحكم. فهو يعرف أنه لااستبداد إلاّ مادامت الرعية جاهلة، وأنه كلّما زادت الرعية جهلاً أمكنه زيادة استبداده من غير اعتراض.
والخلاصة أن المستبد يكره العلم والعلماء، لأن وجودهما يعني انحلال سلطته التي لاتقوم إلاّ على الجهل، لذلك يبقى في صراع ضد العلم والعلماء، لأن العلم يكشف زيف الادّعاء. لذلك يحرص المستبد على مطاردة العلماء، سعياً منه للتنكيل بهم وإسكاتهم عن بيان فساد إدارته. وهو إذ يفعل ذلك فإنه يستبدل بهم المتعالين الممالئين، يمنحهم الألقاب العلمية الرفيعة ليضلل الناس عن حقيقتهم ليتّبعوهم من دون العلماء الحقيقيين. [ يصوّر الكواكبي ذلك وهو يطلق زفرة حسرة وأسى ] قاتل الله الاستبداد الذي استهان بالعلم حتى جعله كالسلعة يُعطى ويُمنح للأميين ولا يجرؤ أحد على الاعتراض. والعلم كما أنه الضدّ المباشر للمستبد، فإنه لايناسب سلسلة المستبدين الصغار أيضاً، الذين يعينون المستبد الأكبر على مكافحته. إن العلم لايناسب صغار المستبدين أيضاً كخَدمة الأديان المتكبرين وكالآباء الجهلاء والأزواج الحُمقاء وكرؤساء كل الجمعيات الضعيفة ، لأن العلم يكشف زيف الادعاء وعُقَد النقص، مما لايدع مجالاً لسطوة السفهاء. لذلك يحرص الاستبداد على أن يحارب العلم فيفسده ، وأن يضغط على العقل فيفسده ، وأن ينشر الأفكار الغامضة المتناقضة ليجعل العوام في معمعة بحيث لايعود بإمكانهم التمييز بين الخير والشر، بين الصواب والخطأ، ويسلبهم الراحة الفكرية فتمرض عقولهم، ويصل تسفّل إدراكهم إلى أن مجرد آثار الأبهة والعظمَة التي يرونها على المستبد وأعوانه يبهر أبصارهم فيرون ويفكرون أن الدواء في الداء، فينصاعون بين يدي الاستبداد ، ويتم له ماأراد. ويبقى طوال وجوده حريصاً على أن يقلب الحقائق في الأذهان. مستغلاًّ بساطة الناس ليحشو رؤوسهم بالأفكار التي تعزز وجوده وتنمّي خضوعهم لسطوته. إنه يُفهم العوام بأنه عظيم وأنهم سافلون فينصاعون له صاغرين مصدّقين، بالنظر إلى مايلاحظونه عليه من علائم الأبّهة والتعاظم والتكبّر.
ويتحكم الاستبداد حتى في أفكار العقلاء، فضلاً عن العامة، فيسوقهم إلى تسمية الغالبين بالرجال العظام، ويجعلهم ينظرون إليه نظرة إجلال واحترام، مع أنهم قتلة مخربون، لاهمَّ لهم إلا تحقيق مزيد من الاستبداد . إن المستبد، بمعاونة عصابته من المستبدين الصغار،
يستطيـع أن يخدع بعض العلماء، ويجعلهم يرون في قسوة المستبدين قوة، وفي مقدرتهم على البطش بطولة، وفي مجازرهم انتصاراً، ويعمل هو، من ناحية أخرى، على كمّ الأفواه المعارضة وخرق قول القرآن الكريم: (ولا يُضارَّ كاتبٌ ولا شهيدٌ ) ويسارع إلى تعليم الناس الانقياد، عن خوف وجبن، من غير إعمال عقل أو جرأة على التفكير الحر.
* ولكن، أيها الشيخ الجليل، ألا توجد للاستبداد حسنات، ألا يجمع الأمة على كلمة واحدة ليتضامنوا تجاه الأخطار الخارجية ؟ ألا يشيع في زمن الاستبداد الأمن ويعم الاستقرار وتقلّ الجرائم التي نسمع عنها كل يوم في الدول التي تسمّي نفسها ديمقراطية ؟
** يابُنيّ، أصلحك الله، لاتوجد أي حسنات يمكن أن تُعزى للاستبداد. وما تغاضي الناس عن أفعال المستبدين إلاّ دليل على ألفة الخنوع لادليل على انتشار التسامح في زمن الاستبداد. وما حُسن الطاعة إلاّ تعوّد على الانقياد من غير تفكير. وما قلّة ذكر الجرائم إلاّ بسبب إخفائها وعدم تمكّن أحد من نقدها وتفنيدها، لابسبب ندرتها أو انعدامها.
يابُني، إنّ مايحدث في زمن الاستبداد أن الناس يتّبعونه في تسمية الأشياء بغير أسمائها، فيصبح النصح فضولاً والغيرة عداوة، ويجارونه في اعتبار النفاق سياسة، والاحتيال كياسة، والدناءة لطف، والنذالة دماثة.
إن السياسة السيئة هي أساس استيلاء الفساد على الفكر العام، وهي التي تجعل الناس يألفون أموراً تضرّهم إلى أن صارت طباعاً لهم يركنون إليها ويحافظون عليها كما قيل :
ألفتُ الضنى لمَّا تطاولَ مكثُهُ فلو بانَ عن جسمي بكتهُ الجوارحُ
وهكذا حتى أمسينا ربما نقتل الطفل في حجر أمه ونلزمها السكوت فتسكت، ولا تجسر أن تزعج سمعنا ببكائها عليه. وتوالت البطون ونحن على ذلك عاكفون، فتأصّل فينا فقدُ الآمال وترك الأعمال. إن فقدان الحرية يميت النفوس ويعطّل الشرائع ويجعل اليأس من إصلاح الأحوال مسيطراً فيرتاح الناس إلى مايلقّنهم إيّاه أعوان الاستبداد ويستكينون. وهؤلاء الواهنة يحقّ لهم أن تشُقَ عليهم مفارقة حالات ألفوها عمرهم، كما قد يألف الجسم السقم فلا تلذّ له العافية، إذ يكتفي المأسورون بتقليد أعوان المستبد الذين يتخلّقون بأخلاق مَلِكهم الذي تلقف عادات السراري الذميمة . فمن فساد أخلاق المستبد يفسد الأعوان، ومن هؤلاء تنتقل العدوى إلى أسرى الاستبداد، ويفشو الفساد في الدولة كلها. ويُمسي كل إنسان لايهتم إلاّ بمصالحه الآنية، غير مبالٍ ولا مدرك أن للآخرين حقوقاً عليه، كما له عليهم. فمن أين لهؤلاء أن يعلموا بأن الإنسان مدني بالطبع، لايعيش إلا بالاشتراك .
* وهل يمتد تأثير الاستبداد إلى المال، أم أن الحياة الاقتصادية تبقى بمعزل عن شؤون السياسة والحكم ؟
** إن الاستبداد صيّر معبوده المال، وجعله هدف حياته الوحيد، الاستبداد دينه وحياته وشرفه المال ، فهو معيار احترام الناس ومصدر التمجّد. لذلك فإن المستبدين لايدّخرون فعل أي شيء في سبيل الحصول على مزيد من هذا الإله، والاستمرار بالتنعّم في امتلاك هذا الشرف. ولا يتوانون عن ابتداع الطرائق التي تسهّل لهم عملية التموّل السريع. وبعد انقراض عادة أكل
الإنسان لحمَ أخيه بتأثير التطور، فإن المستبدين اخترعوا أشكالاً أخرى لفعل ذلك، وتفننوا في الظلم، فهم يمتصون دماء الناس باغتصاب أموالهم، ويقصّرون أعمارهم بتسخيرهم في الأعمال وبغصب ثمرات أتعابهم .
إن الاستبداد السياسي لايهمه إلا الاكتساب العاجل، وفي زمنه يتسع تفاوت الثروات بين الناس، ويُمسي الأسير، تقليداً لآسره، عبداً للمال، ويجنح الجميع للادخار. ولا يمكن، في ظل الاستبداد، أن يتم التموّل إلاّ بأن يحرم المتموّل الآخرين الرزق. والاستبداد، تسهيلاً لهذه العملية الاكتنازية، يسنّ قوانين التفاوت الاجتماعي لحماية احتكار المحتكرين. مما يجعل بالإمكان أن يشتري الغنيّ الفقير ويسخّره لخدمته.
ثم تعود مظاهر الفساد الاقتصادي كلها إلى نظام الحكم المستبد، لأن الاستبداد يُلغي العدالة من قواميسه ويشرّع كنز الثروات إذ يشجع صغار المستبدين على التعدي على حقوق الناس، وعلى استغلال نفوذهم في نهب أرزاق الشعب، وعلى تكديس الثروات لديهم على حساب الآخرين. وكلما ازداد الثري مالاً ازداد طمعاً ورغبة في زيادة التموّل، فمن يملك عشرة يرى نفسه محتاجاً لعشرة أخرى، ومن يملك ألفاً يرى نفسه محتاجاً لألف أخرى .
أما الكسب المشروع فإنه، زمن الاستبداد، صعب المنال، وصعب حفظه، لأن الاستبداد يجعل المال في أيدي الناس عرضة لسلب المستبد وأعوانه، الذين قد يسلبونه في لحظة وبكلمة، وهو إن سلِمَ منهم فكيف يسلم من اللصوص والمحتالين الذين يصولون ويجولون في ظل أمان الإدارة الاستبدادية التي تفضّل الإكثار من أمثالهم؟، لذلك يضطر الناس إلى إخفاء أموالهم والتظاهر بالفقر والفاقة. من ذلك تفتر همم الناس عن العمل والكسب، لأن مايحصّلونه معرّض للسلب، فضلاً عن صعوبة تحصيله.
أما الأثرياء، عبيد المال والاستبداد، فإنهم هم أيضاً لايسلمون من سلب مافي حوزتهم من أموال، حيث يغصبها الأقوى منهم من الأضعف. وتبقى الأموال متنقلة بين أيدي المستبدّين، بينما الشعب في فقر مدقع، ولا تتضح معالم أثر هذا الفقر إلاّ في أواخر أيام الاستبداد، حيث يكون الفساد قد بلغ أوجَهُ، ولا يكون في وسع الفقراء إلاّ إرضاء المستبد بأي وجه كان لتوهّمهم بأن في داخل رؤوسهم جواسيس عليهم، ولا يسعهم إلاّ تملّقه للحصول على الحد الأدنى لقوتِهم اليومي، وهذا يجعلهم يضربون عزّة النفس بعرض الحائط ويخلعون الحياء.
ويصبح لسان حال الناس يقول: ” إنما السلام في مسالمة الحكام وقولهم إذا أردت [لأمر؟] أن يمشي ارشي ثم ارشي ثم ارشي (…) وبناءً عليه فإذا كان الأهالي قد ألفوا الذل والرشوة إلى هذه الدرجة فلا يبقى حاجة لبيان مقدار استبداد المأمورين . هذه هي علاقة الاستبداد بالمال، علاقة نفعية، فالمال أحد أسباب انتشار الاستبداد وأحد دعائمه المهمة، والاستبداد يتحكّم في المال فيحيله إلى أداة إفساد في المجتمع، ويجعله لفئة تتحكم في رقاب باقي الناس من غير رادع أو وازع.
* وما قولك في التربية زمن الاستبداد ؟
** إن التربية غير مقصودة ولا مقدورة في ظلال الاستبداد إلاّ ماقد يكون بالتخويف من القوة القاهرة، وهذا النوع يستلزم انخلاع القلوب لاتزكية النفوس. فالاستبداد يفسد التربية، وإذا فسدت
التربية فسدت الأمة، كما أنه ليس في الأمة الأسيرة من يعتني بالتربية، لأن حالة عدم الاطمئنان التي يعيشها الأسرى تُضعف في نفوسهم الغيرة على تحمّل مشاق التربية. ويكفيهم انغماسهم في تحصيل الملذات الآنية، غير مدركين فائدة التربية. وأبعد الناس عن التربية هم الفقراء، لأنهم يعيشون واقع المعاناة في ألزم لزوميات حياتهم اليومية. وهذا لايعني أن الأغنياء لايعانون من واقع الاستعباد. إلا أنهم، إلى حد ما، يمارسون استبداداً ما على سواهم من المُعدمين. ومعاناة الناس، في أكثرها، وليدة التربية التي تدعو إلى الاستسلام والخضوع، وإلى محاولة التكيف مع الوضع الذي يفرضه الاستبداد.
* كيف يعيش الناس إذاً في ظل الاستبداد الذي كما ترى يطال التربية والأخلاق والعمل والدين والعلم فيفسدها جميعاً، فكيف تصوّر لنا الإنسان في زمن الحكم الاستبدادي؟
** أسير الاستبداد معرّض لسلب المال والشرف في أي وقت، لذلك تقل همّته على العمل، وأمله الوحيد هو أن يحتفظ بالقليل مما يحصّله من المال محاولاً اخفاءه عن أعين الناس والتظاهر بالفقر والفاقة خوفاً من فقدانه. “ولهذا ورد في أمثال الأسراء .. أن العاقل من يخفي ذهبه وذهابه ومذهبه، وأسعد الناس الصعلوك الذي لايعرف الحكام ولا يعرفونه، فليس أمام الناس، في ظل حكم استبدادي، إلا التكتم والتقيّة والحيلة لإخفاء أموالهم خشية فقدانها في زمن يسمح الحكّام فيه بالنهب والسلب. كما يضطر الناس إلى إخفاء أفكارهم وتحركاتهم وآمالهم، فضلاً عن اضطرارهم إلى اخفاء معتقداتهم، لأن كشف مالا يرضى عنه المستبد يعرّض حامله إلى السجن والتعذيب، وربما القتل.
إن الأمة المستبَدّة (بفتح الباء)، بأغنيائها وفقرائها، تعيش في وطن لاتملك منه شيئاً، وإن الذي يستأثر بخيرات البلاد، كلها، هو المستبدّ الذي يوزع على أعوانه مايشاء. أما المواطنون فلا حقوق لهم في موطنهم، وما هم إلا أشياء، شأنهم في ذلك شأن الأشياء الأخرى، كالشجر والحيوانات والأموال …، وما هم إلا وسيلة يتوسلها المستبد ليرضي أهواءه الخاصة، ويشكّلها وفق مزاجه الشخصي. إن حياة هؤلاء البؤساء كلها خلل في خلل، وذلك يجعلهم هيّني النفوس، يعتقدون أنهم لايستحقون حتى الفُتات الذي يُنعم عليهم به المستبد، ويرون أنفسهم جاهلين عاجزين لايمكنهم العيش إلا بمساعدة آسرهم. ويعيش الأسير في بلبلة فكرية، مختل الشعور، غير قادر على التمييز بين الخير والشر، مريض الجسم يشيخ قبل أوانه، لاناموس له ولا إرادة، كالحيوان. ومن أين لأسير الاستبداد أن يكون صاحب ناموس وهو كالحيوان المملوك العنان، يقاد حيث يراد، ويعيش كالريش يهب حيث يهب الريح، لانظام ولا إرادة ؟!.
إن طفل الأسْرِ ينشأ على تلقي المشاكسة والمخاصمة، يعاني وهو طفل من ضغط القماط، وضيق الفراش، والغذاء الفاسد. وإذا افتكرنا كيف ينشأ الأسير في البيت الفقير وكيف يتربّى، نجد أن يلقح به وفي الغالب أبواه متناكدان متشاكسان، ثم إذا تحرك جنيناً حرك شراسة أمه فشتمته، لايمكنه أن يلعب لضيق مساحة البيت وعصبية والديه مما يعانيانه من ضغط الأسر، ولا يستطيع أن يستفسر عما يريد فهمه خشية أن يُضرب أو يزجر لضيق خُلق أبويه وجهلهما. ثم يألف القذارة وصيغ الشتائم التي يتعلمها من زملائه في المدرسة، بعدئذٍ يتولى المستبدون إكمال إفساده بالتضييق على عقله ولسانه. وهكذا يعيش الأسير من حين يكون نسمة في ضيق
وضغط، يهرول مابين عتمة هم ووادي غم، يودع سقماً ويستقبل سقماً إلى أن يفوز بنعمة الموت مضيعاً دنياه مع آخرته، فيموت غير آسف ولا مأسوف عليه .
إن الأسرى يتأقلمون ووضع الاستبداد ومتطلباته، فهو جعل الرعية خادمة للرعاة فقبلوا وقنعوا ، ولم يقوموا إلاّ بردّ فعل سلبي تجاه الظلم الواقع عليهم، فيقابل واحدهم التجبر عليه بالتذلل والتصاغر، وإذا تصادف أن طالب الأسير بحق من حقوقه فإنه يفعل ذلك على صيغة استعطاف، وكأنه يطلب إحساناً لاحقاً. والأسير يتهاون في حقوقه، حتى إذا ضُرب أو شُتم فإنه يتصرف سلبياً، فهو إما أن يتجاهل ذلّه، أو يلجأ إلى مداواته بتعطيل إحساساته بالمخدرات والمسكرات، أو بالتظاهر بأن الدين يأمر بالتسامح، فيسلك مسلك الرياء والنفاق، ويردد مع المرددين بأن الدنيا سجن المؤمن، وأن المؤمن مصاب، وأن الله إذا أحب عبداً ابتلاه … إلى غير ذلك، مما أدخله في أذهانهم مثبّطو العزائم، ورافعو لواء الاستبداد.
* وما هي صفات المستبد ؟
** المستبد في لحظة جلوسه على عرشه ووضع التاج على رأسه يرى نفسه كان إنساناً فصار إلهاً لايُناقش ولا يُعصى له أمر. وهو، لعلمه بسفالته، يحاول أن يغطّي قصوره ودونيته بشتى الوسائل والأساليب. لكن التمويهات التي يسترهب بها الملوك رعاياهم عوضاً عن العقل والمفاداة، لاتُغني شيئاً عن حقيقتهم، وإنما هم يلجؤون إليها كما يلجأ قليل العزّ للتكبر وقليل العلم للتصوف وقليل الصدق لليمين وقليل المال لزينة اللباس. فما هذه المظاهر القيصرية إلا أقنعة يرقمها المستبدّون تعويضاً عن نقص، يعرفونه، في نفوسهم. لذلك فإن الجالس على العرش ترتعد فرائصه خوفاً من رعيته. ويدرك بما يعلمه عن نفسه من ظلم وتعسف، بأن الرعية قد تجرّده من تاجه في أي لحظة .
* ما الذي تقترحه بديلاً عن الحكومة المستبدة ؟
** أنتم تسمونها الآن الديمقراطية، إفشاء الديمقراطية هو الحل الوحيد الذي سمّيته في كتابي الإسلامية التي تنطلق من الشورى الدستورية التي تشمل الحرية والعدالة والمساواة.
بعد بحث امتدّ ثلاثين عاماً تمحّص عندي أن أصل الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية التي تعني مشاركة الرعايا في سياسة الدولة وشؤون الحكم بحثاً عن القرار الصائب في حدود القانون. وأعني القانون الذي يوافق عليه الناس لاذلك القانون الذي يسنّه المستبدّون لمصالحهم الشخصية.
الحكومة هي وكالة تُقام بإرادة الأمة لأجل إدارة شؤونها المشتركة العمومية، ولصيانة حقوق الناس العامة، التي هي حقوق مجموع الأمم، وتضاف للملوك مجازاً، ولهم عليها ولاية الأمانة والنظارة . فلا يمكن للحاكم التصرّف بها وفق مشيئته الخاصة، لأنها ليست حقوقه الشخصية، وما هو إلاّ حارس لها مع كل مَن تُناط بهم هذه المسؤولية. إن وظيفة الحكومة هي خدمة الناس، وتنظيم أحوالهم، والسهر على أمنهم وراحتهم، ومن واجباتها حراسة الأمن العام، والعدل والنظام، وحفظ وصيانة الدين والآداب والقوانين والمعاهدات، والاتجار، إلى غير ذلك مما يحق لكل فرد من الأمة أن يتمتع به وأن يطمئن عليه. والحكومة العادلة هي الحكومة التي تنهض بالأمة وترقى بها، وتوفّر لها أسباب الأمن والسعادة. فالإرادة هي إرادة الأمة، التي يجب أن
تبقى القوة في يدها وحدها، ليُصار إلى تنفيذ رغبتها لارغبة الحكومة. وعلى الملوك أن يلتزموا بمشورة الملأ، وألاّ ينفّذوا إلاّ ماتراه الأمة مناسباً لها، ولا يُنسب الأمر إلى الملوك إلاّ توقيراً سلهم وعلى سبيل المجاز.
* أرجو أن تتفضل علينا برسم معالم الطريق للتخلص من الاستبداد الفاسد المفسد. كيف يمكن التغيير في ظل حكم سلطوي يمارس العنف تجاه شعبه ويمتص دماءهم ؟
** في كل فترة لابد أن يكتشف الناس طرائق خلاصهم، ومع ذلك أقول: الأمة التي لايشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لاتستحق الحرية، والاستبداد لايقاوم بالشدة وإنما يقاوم باللين والتدريج، ويجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به. ومع ذلك أيّها المتحضرون في القرن الواحد والعشرين، يمكنكم الاطلاع على تفاصيل قواعد رفع الاستبداد كما رأيتها في كتابي (طبائع الاستبداد) لتعرفوا مقدار تطوّركم بعد قرنين من الزمان.. واعذرني ..سأغادركم إلى أواخر القرن التاسع عشر وأنتم تحلمون بالقرن الثامن أو حتى بالقرن الخامس قبل الميلاد، حيث حقّقت أثينا مالم يستطعه العرب في القرن الحادي والعشرين على الصعيد السياسي.. لاحول ولا قوة إلا بالله وهو المعين.
* كيف تغادرنا ياشهيد الحرية من غير أن تترك لنا بارقة أمل تخلّص مجتمعاتنا مما نحن فيه، حيث يتربّص بنا المتربّصون ؟
** إن أبناء الأمة مسؤولون عمّا هم فيه من رفعة ومن هوان، فانظروا أنّى أنتم، ولتعلموا أنه إذا لم تحسن أمة سياسة نفسها أذلّها الله لأمة أخرى تحكمها. ومتى بلغت أمة رشدها وعرفت للحرية قدرها، استرجعت عزّها وسارت في دروب الترقّي .. ياقوم : أعيذكم بالله من فساد الرأي وضياع الحزم وفقد الثقة بالنفس وترك الإرادة للغير (إن الله لايظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون ).
* شيخنا الجليل، دعني أكن ملحّاً لخطورة مانحن فيه، ولن أثقل عليك، فكل ماأرجوه أن تدلّنا على رأس الخيط لنبدأ منه الإصلاح من أجل تحديث النظم العربية وصولاً إلى الوحدة وإلى العيش الكريم، وإلى مجابهة التحديات. خاصّة وأنت من الذين ناضلوا من أجل بناء مشروع نهضوي عربي.
** إنني أتعجّب ياولدي من أنكم لم تستوعبوا – بعد – تجارب الآخرين، ولم تصلوا إلى مرحلة قراءة التاريخ بوعي، مع أنني أراكم كلّ يوم تصمّون الآذان عبر ماتسمّونه السلايد بأن البلدان العربية في تطوّر مستمر، وأن الاقتصاد يتحسّن كل عام بنسب كبيرة، وتختارون الحاكمين بنسب لم يحلم بها السلطان عبدالحميد، مع أنكم تقفون عاجزين أمام من تسمّونهم حفنة من الصهاينة، وتعانون القهر والذل والفقر، صاغرين؟
ياعزيزي إن أول خطوة على طريق الترقّي هي أن تعترفوا بعجزكم وأخطائكم، وأن تكفّوا عن الحلم بما ليس في الإمكان.
المناطق العربية تجاوزت عشرين دولة وكثر السلاطين وتباينت المصالح. وليس بالإمكان الآن سوى إعادة النظر بهذه الدساتير لإصلاحها وفق شروط إنسانية واقعية، وليبدأ الإصلاح
بإصلاح التعليم، واستقلال القضاء، وتحديث القوانين، وتحسين الاقتصاد وفق أحدث النظريات العلمية فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها سعى إلى طلبها. وعلى رأس الأولويات لابد من التخلي عن ديمقراطيتكم الخاصة أو الشرائع التي ترون أنها تناسب كل بلد على حدة. الإنسان إنسان وحقوقه واحدة، لذلك لايكفي أن نرفع شعارات المساواة والحرية والديمقراطية بل لابد من السعي فوراً إلى تحقيقها فعلياً، وإلاّ فعلى الأمة السلام، وطوبى للذين يتّعظون بادئين بما سعيت في طلبه أوّلاً، ألا وهو إطلاق حرية الصحافة والتعبير. لابد من حرية التفكير.. لابد من حرية التعبير ..
د. محمد جمال طحان
كاتب و مفكر سوري دكتوراه في الفلسفة و عضو اتحاد الكتاب العرب- عضو اتحاد الصحفيين.
اترك تعليقاً