العام 2014 كان عامًا مميزًا بالنسبة ل(هاروكو أوبوكاتا). عام ارتفعت فيه إلى أعلى عليين و هوت إلى أسفل سافلين.(أوبوكاتا) التي يناهز عمرها الثلاثين عامًا, كانت ترأس مختبرها الخاص في مركز (رايكن) لعلم الأحياء الإنمائي في كوبي باليابان, حققت إنجازات ضخمة في عالم أبحاث الخلايا الجذعية الذي يسيطر عليه الرجال.
لقد اعتبروها نجمًا صاعدًا في المحافل العلمية و بطلة قومية, و لكن صعودها للمجد لم يطُل, و سقوطها المدوي استمر على مدار عدة مراحل مخزية.
قصة أوبوكوتا
بزغ نجم (أوبوكاتا) في يناير 2014 عندما نشرت ورقتين بحثيتين في مجلة (نايتشر) التي تعد واحدة من أكبر المجلات العلمية على مستوى العالم. تمكنت هي و زملاؤها من وضع طريقة في غاية السهولة لتحويل الخلايا الجسدية العادية إلى خلايا تماثل الخلايا الجذعية الجنينية و ذلك باستخدام خلايا دم من الفئران.
كل ما عليك أن تفعله هو أن تضع هذه الخلايا الجسدية في حمام من حمض الستريك الضعيف, اتركها مغمورة لمدة نصف ساعة, و هكذا تكون محوت أي تاريخ سابق لنمو هذه الخلايا ! .
إنها تصبح مثل الخلايا الجنينية, قادرة على التضاعف بشكل مذهل و بالتالي تنمو لتشكل أي نوع من الخلايا في الجسد, قوة خارقة تعرف بال Pluripotency أو تعدد القدرات. هذه كانت طريقة أسرع و أسهل بكثير لبرمجة الخلايا من تلك الطريقة التي قدمها (شينيا ياماناكا) , و هو عالم ياباني أخر , في عام 2006. بالإضافة لذلك, فإن طريقة (أوبوكاتا) أقل إضرارًا بالخلايا و أقل احتمالية لإصابتها بالسرطان.
و لأن (ياماناكا) حصل على جائزة نوبل, تسائل الصحفيون “متى ستحصل (أوبوكاتا) على جائزتها أيضًا؟” ولأنها كانت امرأة شابة, اهتموا بمعرفة كيف تزين معملها – دهنت الحوائط باللون الوردي و الأصفر و علقت الصور الكارتونية في كل مكان-… اهتموا بمعرفة ماذا ترتدي أثناء العمل – لم تكن ترتدي معطف المعمل و لكن مريولة مطبخ أعطتها لها جدتها- … اهتموا بمعرفة ماذا تفعل بعد ساعات العمل- تطعم سلحفاتها الأليفة و تستحم و تتسوق و تواعد الشباب- .
و لكن لم تهنأ (أوبوكاتا) طويلًا بهذا النجاح , فبعد أيام من نشرها للمقالتين البحثيتين في مجلة (نايتشر), بدأت الإدعاءات تلاحقها في المدونات العلمية و على تويتر.
فبعض الصور التي التقطتها بدت و كأنها تم التلاعب بها, و مقاطع طويلة من كتاباتها سُرِقت حرفيًا من أبحاث أخرى, بدأت (رايكن) في التحقيق على الفور, و في 1 أبريل أعلنت ما توصلت إليه: (أوبوكاتا ) تورطت في سوء السلوك العلمي.
ومباشرة بدأ الإذلال العلني. وسائل الإعلام التي قامت بتعظيمها لم تدخر جهدًا في فضحها و تدمير سمعتها. واجهت (أوبوكاتا) الدامعة مؤتمرًا صحفيًا قاسيًا , يبث مباشرة على شاشات التلفاز. وقفت أمام الميكروفون و تحت الأضواء اللاذعة و وميض الكاميرات, و اعتذرت,و انحنت و أجابت عن الأسئلة, ثم انحنت و اعتذرت , وانحنت مرة أخرى.
هاروتو أوبوكاتا |
(أوبوكاتا) اعتذرت عن الكثير من الأشياء يومها. اعتذرت عن “ضعف المجهودات, سوء التحضير, قلة المهارة”, عن أخطاء في طريقة العمل و سوء إدارتها للبيانات المتعلقة بالتجربة. و قالت أن كل هذه “أخطاء حسنة النية” ناجمة عن صغر سنها و قلة خبرتها. و لكنها أنكرت تزويرها للنتائج و كانت مصدومة لأن محققي (رايكن) قالوا أنها ” لا تنقصها فقط أخلاقيات البحث العلمي, و لكن أيضًا النزاهة و التواضع اللازمين للباحث”. على الرغم من كل هذا تمسكت بأن خلايا Stap التي توصلت إليها حقيقية تمامًا.
على كل حال, يظل وجود هذه الخلايا من عدمه محل شك متزايد. فعلى الرغم من السهولة الواضحة في طريقة (أوبوكاتا), لم ينجح أحد غيرها في الحصول على نتائج. في البداية, وقف مساندوها و زملاؤها بجانبها , و لكن تدريجيًا بدأوا في التراجع عن موقفهم و طلبوا من مجلة (نايتشر) أن تسحب المقالين.
و أخيرًا ,إنضمت لهم (أوبوكاتا) في شهر يونيو . و مع شطب المقالين أتى الدليل الأكثر إدانة إلى الآن: التحليل الجيني أثبت أن خلايا Stap لا تطابق الفئران التي من المفترض أن يكونوا جزءًا منها. من خلال محاميها, قالت (أوبوكاتا) أنها لا تفهم كيف توصلوا لهذه النتائج.
يبقى التفسير الأوضح و الأكثر بعثًا على الاكتئاب, أن الخلايا المسماة Stap هي مجرد خلايا جذعية جنينية عادية , أخرجها أحدهم من الثلاجة و غير اسمها.
يدعي البعض أن (رايكن) اتخذت من (أوبوكاتا) كبش فداء لاحتواء الأزمة .قد يصدق هذا على اعتبار أن هذا يبرأ العلماء الكبار الذين شاركوها الأبحاث, و لكن في الوقت ذاته يوجه لهم ضربة قوية لأنهم لم يتأكدوا من صحة عملها بشكل دقيق.اعترفت (رايكن) أيضًا بأن نظام المتابعة العام لديها قد فشل , و بناءً على ذلك بدأوا في تعديل قسم الأحياء الإنمائية بشكل جذري, فتخلصوا من نصف أفراد المعمل البالغ عددهم نحو 500 فرد, و غيروا اسم القسم و كلفوا فريقًا إداريًا جديدًا بمتابعة العمل.
واحد من هؤلاء الذين سُلطت عليهم الانتقادات هو (يوشيكي ساساي) و هو نائب مدير (رايكن) و المشرف على (أوبوكاتا) و عالم الخلايا الجذعية المحترم البالغ من العمر 52 عامًا. كان يشعر “بالعار الشديد”. و في أوائل أغسطس, بعدما قضى شهرًا في المستشفى لإصابته بالاكتئاب , قام بالانتحار من فوق سلالم مبنى للبحوث أمام قسم الأحياء الإنمائية, و ترك ثلاث رساثل وداع, إحداها ل(أوبوكاتا) يرجوها بأن تحاول تحضير خلايا Stap مرة أخرى.
و فعلًا وفرت (رايكن) فرصة ل(أوبوكاتا) لتحقيق وصية (ساساي) الأخيرة, و بدلًا من أن تفصل (أوبوكاتا), سمحت لها –تحت رقابة لصيقة- بأن تساعد فريقًا من الباحثين لإعادة إنتاج الخلايا مرة أخرى. و ذلك حتى تستفيد الجهود الساعية للحصول على النتائج من خبرة (أوبوكاتا), و بالتالي تزيد فرص نجاح التجارب. و لكن في شهر ديسمبر , بعد ثمانية أشهر من العمل, اعترف فريق الباحثين بالهزيمة وقامت (أوبوكاتا) بالاستقالة مدعية “أنها مذهولة للغاية” من هذه النتائج.
انتهى العام مع تقرير (رايكن) النهائي حول الموضوع. و تضمن أن (أوبوكاتا) زورت و اصطنعت البيانات ,حيث أن خلايا Stap المزعومة ما هي إلا خلايا جذعية جنينية, و أن هذا الخلط لم يكن عن حسن نية, و ذلك على الرغم من أن التقرير أفتقد أي دليل قاطع على ارتكاب (أوبوكاتا) هذه الجريمة الشنعاء في حق العلم. و هكذا و بكل بساطة, أخذت (أوبوكاتا) موقعها في صفوف العلماء المزورين.
خذ عندك مثالًا: (هوانج وو سوك). في عام 2004 , أصبح هذا العالم الوسيم الذي يعمل في جامعة سيول الوطنية, مصدر فخر كوريا الجنوبية بأكملها عندما أدعى أنه تمكن من استنساخ أول خلايا جذعية جنينية.
وجهه المبتسم تصدر صفحات الجرائد حول العالم, و أصدرت (كوريابوست) طابعًا يحمل صورته تشريفًا له. و لأن الاستنساخ يعتبر نوعًا من إعادة البرمجة الخلوية, فإن ما توصل إليه (هوانج) أثار نفس الحماس الذي أثارته اكتشافات (أوبوكاتا). فكلاهما بشّر بالكثير في علم الطب التجديد الحيوي : خلايا جذعية مصنعة خصيصًا لكل مريض, تتمكن من إصلاح أي عضو أو نسيج تالف في الجسم. و لكن تحقيقات الجامعة التي ينتمي إليها (هوانج) أثبتت زيف هذه النتائج , فلم تتطابق أي من الخلايا الإحدى عشر مع المصدر المفترض لها.
تجربة أليكسس كاريل
على مدار القرن الماضي, حظي المعمل الأحيائي بنصيبه من الفضائح… بل إن علم الخلية الحديث انبثق إثر فضيحة مدوية.
في وسط هذه الفضيحة كان ( أليكسيس كاريل), العبقري الفرنسي الأنيق الذي يعمل في معهد (روكيفيلر) في نيويورك. اكتشف (كاريل) أنك إذا استخلصت بعض الخلايا من الجسم و وضعتها في “حساء” مغذي و تعاملت معها بشكل مناسب, فإنها لا تتمكن فقط من البقاء حية, بل تزدهر و تتضاعف.
و كذلك إذا أخذت بعض الخلايا من مزرعة حيوية يمكنك أن تصنع مزرعة ثانية و ثالثة و هكذا.
هذه الطريقة التي تعرف بالإمرار الخلوي Cellular Passage لها أهمية هائلة, فمن خلالها فتح (كاريل) الباب إلى عصر جديد في عالم أبحاث الخلية. برغم أنها أوصلته للشهرة العالمية, فإن هذه التجربة كانت في غاية الفشل و الضعف.
في 17 يناير 1912 , أزال ( كاريل) جنين فرخ من بيضته و استئصل من قلبه النابض قطعة صغيرة بهدف إبقائها حية لأطول وقت ممكن. لم يكد يبدأ في تجربته حتى أعلن للعالم أن مزرعة قلب الدجاجة أصبحت خالدة, و أن الخلود خاصة تكمن في كل الخلايا , و موت الخلايا لا يحدث إلا كنتيجة لكيفية ترتيب الخلايا في الجسد. بشكل أوضح: سر الحياة الأبدية يكمن بداخلنا , خاصة تميز لَبِنات تركيبنا الحيوي. حاذ الكشف انتباه العامة و سرعان ما تقبله المجتمع العلمي.
أدعي ( كاريل) و مساعدوه أنهم أبقوا المزرعة حية لمدة 34 عامًا, أي خمسة أضعاف متوسط عمر الدجاجة العادية. و لسنوات عديدة ظل الصحفيون يحتفلون بعيد ميلاد “قلب الدجاجة” و يتسائلون عن نموها و كم كانت ستبلغ من الحجم لو كان (كاريل) قد قام برعاية كل خلية من خلاياها القادرة على التضاعف للأبد… (طبقًا للحسابات, فإن حجمها تجاوز الكرة الأرضية و ملأ فراغ المجموعة الشمسية).
و لكن المشكلة كانت أن أحدًا لم يتمكن من إبقاء المزرعة حية للأبد. حاول معمل تلو المعمل و كلهم فشلوا على مدار عقود متعاقبة. و لأن (كاريل) كان عملاقًا في عالم أبحاث الخلية و حاصلًا على جائزة نوبل لم يجرؤ أحد على أن يشكك فيه. وعندما كانت تجاربهم تفشل كان العلماء يلومون أنفسهم. لقد افترضوا أنهم تعوزهم مهارة الأستاذ , و أن معمله كان مجهزًا بإمكانات أعلى مما يملكون, و أنهم عرضوا الخلايا لعدوى ما أو فشلوا في تغذيتها بشكل كافٍ. الآن نعرف أن العكس هو الصحيح, لم يتمكن الباحثون من تكرار نتائج (كاريل) لأنهم لم يكونوا على نفس المستوى من انعدام الكفاءة و الضمير.
في منتصف الستينيات, بعد نصف قرن من توصل (كاريل) لمزرعة قلب الدجاجة, انهارت أكذوبة الخلود الخلوي على يد (ليونارد هايفليك), باحث شاب طموح يعمل لدى معهد (ويستار) في فيلادلفيا, لقد اكتشف أن خلايا الجسد العادية لها دورة حياة محدودة, بالتحديد لديها متوسط من عدد مرات التضاعف في ظروف صناعية (خارج الجسد الحي). هذا العدد بالنسبة للدجاج هو 35. بمعنى أخر , مزرعة من خلايا الدجاج يمكنها أن تتضاعف حوالي 35 مرة قبل أن تموت, هذه العملية تستغرق عدة شهور.
عندما تمكن (هايفليك) من إثبات ذلك, كان (كاريل) قد مات و خلايا الدجاجة “الخالدة” قد وجدت طريقها للقمامة. مما يعني أننا نعرف أن تجربة (كاريل) الأشهر ليست إلا أكذوبة, و لكن لا نعرف لماذا؟…فلو كانت مجرد حالة تزوير و نصب, فلعلها تكون أسوأ الفضائح قاطبة في تاريخ العلم…
على كل حال, فإن السبب على الأغلب يرجع إلى الاستهتار لا إلى انعدام الأمانة, (كاريل) و زملاؤه استخدموا عصارة جنينية كوسط لزراعة العينة, و لو كانوا حضروا هذا الوسط بشكل سيء, فربما احتوى على خلايا دجاج حية, و في هذه الحالة, فإنه بدلًا من أن يقوموا بتغذية المزرعة فقد قاموا باستبدال الخلايا القديمة بأخرى جديدة. إنه خطأ بسيط للغاية, و لكن أن يقعوا فيه ل 34 سنة متتالية فهذا يجعلنا نتهمهم بالإهمال البالغ.
نتائج مزيفة ..
التناتجية هي إحدى دعائم العلم الحديث : لو لم نتمكن من إعادة التجربة مرات عديدة على أيدي باحثين مختلفين , مع الحصول على نفس النتائج في كل مرة, فإن هذه التجربة لا يعتد بها. هذه هي النظرية.
تجربة (كاريل) ترينا كيف يمكن للعلم أن يزيغ عن الطريقة العلمية. و الذنب لا يقع فقط على (كاريل) و معمله, بل يمتد ليشمل كل المجتمع العلمي لأنه دافع عن أكذوبة الخلود الخلوي لأكثر من 50 عامًا على الرغم من أنه استند على تجربة واحدة غير قابلة لإعادة الإنتاج.
و على الجانب الأخر, فإن السرعة التي سقطت بها (أوبوكاتا) كفيلة بأن تجعلنا أكثر ثقة في قدرة العلم على تصحيح نفسه. فبمجرد إعلانها عن إنتاج خلايا Stap … حاول الباحثون أن يصنعوا خلاياهم الخاصة, و عندما فشلوا في ذلك أرادوا معرفة السبب. مما لا شك فيه أن معايير علم الخلية قد تحسنت منذ أيام (كاريل).أبحاث الطب الحيوي أصبحت أكثر تنظيمًا, و إجراءات المعامل البيولوجية أصبحت أكثر ثباتًا. و الإنترنت لعبت دورها, فسهلت للعلماء المقارنة بسرعة بين الملاحظات و تتبع الأخطاء.
و لكن قبل أن نهنيء أنفسنا بأننا نسير على طريق العلم , علينا أن نتذكر أن أغلب التجارب لا يعاد إنتاجها. بكل بساطة: هناك الكثير جدًا من التجارب, و قليلًا ما يهتم الباحثون بتكرار أعمال الغير. العلماء يبحثون عن الحقيقة, و لكنهم يفضلون الحقائق غير المطروقة, يريدون أن يكونوا السباقين إلى الاكتشافات الجديدة.
فهناك المجد كله, هكذا تصنع اسمك, و تجذب المزيد من التمويل , و تدفع حياتك المهنية للأمام. أما تأكيدك – أو فشلك في تأكيد – اكتشافات الأخرين لا يساعدك كثيرًا, بل قد لا تتمكن من نشر أبحاثك في المجلات العلمية التي تفضل نشر الجديد دومًا.
إن المشكلة لا تقتصر على كون أغلب التجارب لا يعاد إنتاجها, بل الأدهى أن كثيرًا منها غير قابلة لذلك أصلًا, هذا قد يصدم هؤلاء الذين لم يسبق لهم العمل في المختبر الأحيائي, أما من دخل المعمل فهو يعرف ذلك جيدًا.
منذ بضعة أعوام, تأكد (جلين بيجلي) من هذا الأمر. فمن موقعه كرئيس قسم أبحاث السرطان في العملاقة الصيدلانية ( أمجين), حاول تكرار 53 تجربة محورية في ذلك المجال نشرت في أفضل المجلات العلمية.
و قد أثار رعبه أنه لم يتمكن مع فريقه إلا من إثبات ست تجارب فقط, أي 11% . الباحثون في (باير) أقاموا تجربة مماثلة و بالمثل أصابتهم النتائج بالاكتئاب, فمن أصل 67 دراسة منشورة عن القدرات العلاجية لأدوية مختلفة أغلبها لعلاج السرطان, تمكنوا من إعادة إنتاج أقل من ربع هذه النتائج فقط.
تجربتا (أمجين) و (باير) أصغر من أن يدلا على حجم المشكلة الحقيقي, و لكنهما يوضحان شيئًا كان علماء المختبر الأحيائي يشعرون به في قلوبهم من زمن بعيد: التناتجية هي الاستثناء و ليست القاعدة.
- سوء تصميم التجربة
- إساءة إدارة البيانات
- التحيز في تفسير الوقائع
- الفشل في توصيل النتائج و الوسائل.
و بعد كل هذا لا نغفل بالطبع عن التعقيد الشيطاني الذي يكتنف الحقيقة بذاتها, هذه الحقيقة التي تخبأ أكثر مما تراه عين العلم الثاقبة.
كل ذلك كان من الممكن أن يوفر الحماية ل(أوبوكاتا), و لكن بجانب افتقادها” للنزاهة و التواضع اللازمين للباحث”… ما الخطأ الذي وقعت فيه؟
على افتراض أنها لم تكتفِ فقط بتزوير بياناتها و لكن أيضًا كذبت بخصوص حقيقة وجود خلايا Stap … و هو ما يصعب أن نتصور خلافه , ما السبب في فشلها إذن؟
يبرز لنا سببان واضحان.
السبب الأول: الإهمال منقطع النظير. لقد جذبت (أوبوكاتا) الشكوك حول مقالتيها في مجلة (نايتشر) بسبب الطريقة الفاشلة التي تلاعبت بها في الصور و سرقتها لأجزاء من بحوث أخرى. من السهل دومًا ملاحظة هذه التجاوزات, و من المفترض أن المجلات العلمية المرموقة تبحث عن مثل هذه الجرائم, ولكن من السهل أيضًا طمسها. محررو (نايتشر) مازالوا يتساءلون “كيف خدعتنا (أوبوكاتا) بهذه الحيل الهزيلة؟” . على كل حال نحن متفاجئون أكثر أن (أوبوكاتا) لم تبذل مزيدًا من الجهد لإخفاء تزويرها, و خاصةً لأن مستقبلها المهني كله كان مهددًا بالفشل لو تم اكتشاف هذه التجاوزات.
السبب الثاني: الغرور. لو لم تحاول (أوبوكاتا) أن تتحدى العالم كله, لم يكن أحد ليلاحظ ألاعيبها , وكانت ستظل تأمل في مستقبل طويل و سعيد في العلم. فالتجارب عادةً ما تتجاوز اختبار التناتجية إلا لو إدعت إثبات شيء مهم أو مثير للجدل أو قابل للتسويق. وخلايا Stap تندرج تحت هذه البنود الثلاثة. و لأن (أوبوكاتا) إدعت هذا الكشف الثوري, أراد الجميع أن يعرفوا كيف فعلته, و كيف يفعلونه هم. عندما سُلطت الأضواء عليها, عرضت (أوبوكاتا) نفسها لتدقيق لم تكن لتتحمله.
و لكن ربما “الغرور” ليس المصطلح الصحيح, فعلى الرغم من أن بعض باحثي الخلايا الجذعية بالفعل يمتلكون ذلك ” الطموح الوثاب” الذي يميز أبطال التراجيديا الشكسبيرية, إلا أن ما قرأناه و رأيناه بأنفسنا يثبت لنا أن التزوير العلمي قلما يكون قرارًا بطوليًا وليد اللحظة. و إنما هو أشبه بعادة سيئة تكتسبها, منحدر زلق تنحدر منه دون أن تشعر بذلك.
لماذا يكذبون ..؟
يبدأ الأمر بإغراء يواجهه كل العلماء و قليل منهم من يستسلم له . (في بعض الدراسات التي سجلت شهادات العلماء في سرية و بدون معرفة أسمائهم, اعترف 2% فقط بتزوير نتائجهم و لو مرة واحدة على الأقل, و شهد 14% زملائهم يقومون بالتزوير).
تخيل الأمر: لقد ضحيت بساعات طويلة في تجربتك, و أخذت تنمّي الخلايا و تتحكم فيها و تختبرها بشتى الطرق, كل ذلك تحت افتراض معين- أشبه بالحدس- في عقلك. و أنت تريد فعلًا أن تثبت صدق هذا الحدس, و أن المال الذي تم استثماره في تجاربك لم يذهب سدى, و أنك لست تضيع حياتك في معطف المعمل وسط الجدران البيضاء و تحت أضواء الفلورسنت. و بالطبع أنت تريد أن تحرز تقدمًا في هذا المجال التنافسي, حيث تقع تحت ضغط بالغ يدفعك للإنجاز. و لكن تأتي النتائج مخيبة للآمال. يمكنك أن ترى بوضوح ما يجب أن تكون عليه النتائج, و ترى كذلك كيف يمكنك بتعديل بسيط, أن تحسّنها, كل ما عليك أن تفعله هو أن تعد شيئًا ما بشكل مختلف, ربما تحرك نقطة أو أكثر على الرسم البياني, أو تعدل قليلًا في صورة ما. و إذا تخلصت من البيانات الحقيقية, فلن ينتبه أحد لما فعلته على الإطلاق. و ربما يكون حدسك في الأصل صحيحًا, بالتأكيد إنه صحيح… سوف تجد المزيد من الأدلة على ذلك – أدلة حقيقية- لو ظللت تبحث عنها.
و لكن ما أن تبدأ في التلاعب بالحقائق يصعب عليك أن تتوقف. ربما يرجع ذلك إلى أنك قد جربت هذا التلاعب على أرض الواقع و اكتشفت كم هو من السهل أن تخدع زملائك. و ربما يرجع أيضًا إلى استمتاعك بالإعجاب و تحسن فرصك في نشر أبحاثك و الحصول على ترقية و جذب أموال المستثمرين,
بل ربما تكون قد أعجبك الشعور بالخطر. و لكن الأمور تتعقد مع مرور الوقت, فأنت الآن مطالب بأن تحقق المزيد بعد نجاحك السابق, مما يعني إضافة المزيد من الكذب إلى الأكاذيب السابقة, مع الحرص على أن يبدو نسيج التزوير متجانسًا. و مع تقدم مشروعك, سوف يشاركك فيه الأخرون, و سوف تعمل على التحكم في ما يعرفونه عن المشروع و في ما يقدموه من إسهامات. الجانب المشرق من هذا الأمر أن سمعتهم الطيبة سوف تضيف لعملك مزيدًا من المصداقية, أما الجانب المظلم هو أنك أصبحت محط مزيد من الأنظار المتفحصة.
يبدو أن (أوبوكاتا) كانت ماهرة في هذه اللعبة, لقد جندت علماء لهم ثقلهم في مجال الاستنساخ و أبحاث الخلايا الجذعية , و نجحت في التعامل معهم لدرجة أنه عندما بدأت الأسئلة تثار حول عملها كانوا هم أول من تصدى للدفاع عنها, و أعلنوا أنهم قد تأكدوا من صحة أبحاثها بأنفسهم. في الأغلب كان هذا هو اعتقادهم في الأساس, و لكن التحقيقات أظهرت بعد ذلك أن (أوبوكاتا) كانت دائمًا تساعد زملائها في (رايكن) لإثبات صحة عملها.
و ماذا عن زملاء (أوبوكاتا) في الولايات المتحدة؟ بالتحديد, ماذا عن (تشارلز فاكانتي) , الذي شارك (أوبوكاتا) في كتابة مقاليها عن خلايا Stap المزعومة؟
هذا الرجل ذو الشعر الأبيض و الشخصية الساحرة الذي ترجع أصوله لوسط غرب الولايات المتحدة, والذي ترأس قسم التخدير في مستشفي (بريجهام أند وومين) في (بوسطن) , قام بمجهود لا يقل عما فعلته (أوبوكاتا) ليتسبب في إرباك عملية تكرار التجارب. فمن البداية زعم (فاكانتي) أنه تمكن من صناعة خلايا Stap , و من ضمنها خلايا بشرية, ولكن لم يقدم أي دليل على ذلك. ما قدمه بدلًا من ذلك هو وصفته الخاصة التي نشرها في منتصف مارس (في نفس الوقت الذي أعلنت فيه (رايكن) لأول مرة أن (أوبوكاتا) تورطت في سوء السلوك العلمي), و أكد للمجتمع العلمي أنه ما دام استطاع صناعة خلايا Stap فبإمكان أي أحد أخر أن يصنعها كذلك.
لسوء الحظ, انقلب هذا التواضع المصطنع على صاحبه, فلم يتمكن أحد من تحقيق نتائج جيدة باستخدام وصفة (فاكانتي). تمنى كثيرون أن يعمل (فاكانتي) ليل نهار ليثبت وجود خلايا Stap … و لكن في سبتمبر الماضي أخذ أجازة لمدة سنة من العمل في (بريجهام), و قبل رحيله ترك وصفة معدلة قال عنها: “سوف تحسن من فرص النجاح”. و لكن حتى الآن يبدو أن هذه الوصفة الجديدة كسابقتها في الفشل.
دور (فاكانتي) في هذه الفضيحة العلمية مثير للغاية و خاصةً لأن خلايا Stap نشأت من خياله الخصب. فلأكثر من عقد من الزمان, كان يعمل بناءً على حدس بأن الخلايا الجذعية متعددة القدرات توجد في كل أنسجة الثدييات, جاهزة بانتظار دورها في أي وقت. لقد كانت فكرة عظيمة و مبهرة كفيلة بصناعة مستقبله المهني, ولكن (فاكانتي) لم يتمكن من إقناع أحد بها. بالإضافة لذلك كانت تنقصه المصداقية, فبعد كل شيء هو لم يكن عالمًا في الخلايا الجذعية و لكن طبيب تخدير و مهندس للأنسجة , معروف بزراعته لأذن صناعية على ظهر فأر ( Vacanti earmouse ).
ثم في 2008 انضمت (أوبوكاتا) لمعمله كخريجة حديثة, و جلبت معها المهارات و المصداقية التي يفتقدها (فاكانتي) بشدة. و هكذا بدأت شراكة استمرت حتى بعد عودة (أوبوكاتا) لليابان, و بمساعدتها كرر (فاكانتي) تجاربه السابقة و راجع افتراضاته : نسيج الثدييات لا يحتوي على مخزون معين من الخلايا الجذعية متعددة القدرات, و إنما يصنعها عند الحاجة مثل المرض أو الإصابة. كان المفترض أن تؤكد خلايا Stap هذا الحدس, لأنها تماثل الخلايا الجذعية التي ينتجها الجسم تلقائيًا و لكن مع فارق أنها مصنعة في المعمل.
هل بدأت (أوبوكاتا) في طبخ البيانات و التلاعب بها لإرضاء المشرف عليها؟ هل خطر ببال (فاكانتي) أن يشك في صحة نتائجها؟
على كل حال, فضيحة خلايا Stap هي بنتهما الشيطانية.
و لعلك تتسائل: لماذا لم يُجرْ (فاكانتي) فوق الفحم الساخن مثل (أوبوكاتا) و زملائها اليابانيين؟, و لماذا لم تفعل (بريجهام) مثل (رايكن) و تجلد نفسها علانيةً؟.
و الإجابة سهلة: في الولايات المتحدة, يتم إجراء التحقيقات حول سوء السلوك العلمي تحت ستار من السرية, و على الأغلب قد بدأت (بريجهام) في تحقيقاتها الخاصة, ولكن على عكس ما حدث مع (رايكن) لن نتمكن من معرفة ما ستسفر عنه هذه التحقيقات –فضلًا عن حدوثها من عدمه- حتى يتوصلوا إلى حكم ما.
ترجمة Mohanad ElToomy
المصدر : صحيفة الجارديان
تعليق واحد
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
مقال يكتب بماء الذهب *الخالص* و قبل بذلك بمداد العلماء الصادقين و الباحثين عن الحق و الحقيقة أينما كانت و مهما كانت قسوتها.. سلمت يمينك على ترجمة المقال..أستمتعت بكل حرف كتب فيه..
يتلخص الموضوع كاملا في هذه الجملة..
(لم يتمكن العلماء من تكرار نتائج كاريل لأنهم لم يكونوا على نفس المستوى من إنعدام الكفلءة و الضمير.)
و السلام على من أتبع الهدى.