ألقى الدكتور روبرت لستيج وهو استشاري الغدد الصم لدى الأطفال في جامعة كاليفورنيا بسان فرانسيسكو في عام 2009 محاضرة بعنوان”السكر: الحقيقة المرة” استغرقت المحاضرة 90 دقيقة ثم حملت على اليوتوب كجزء من سلسلة الجامعة التعليمية الطبية وحدث أمر غريب. لقد انتشر الفيديو بشكل فاق التوقعات.
لم يكن شريطاً فكاهياً عن قطة أو رضيع يقذف كرة البيسبول نحو والده .
كانت محاضرة غذائية ملائ بالكيمياء الحيوية والرسوم البيانية المعقدة . ولكن ثمة أمر غريب في هذه المحاضرة بالذات شد إنتباه العالم إلى الآن.
حصد اكثر من ستة ملايين مشاهدة(لغاية اليوم 7421597 بالضبط) ما هي الرسالة المستحوذة على الإنتباه؟
السكر سام
لم ينظر غالباً إلى السكروز sucrose (سكر القصب أو البنجر) على أنه ضار بعكس المنطق والإدراك السليم.
قامت إدارة الأغذية والأدوية في الولايات المتحدة بمراجعة شاملة عام 1986 وأعلنت انه ” لا يوجد دليل قاطع لخطر السكر” ولاحقاً في عام 2014 ذكر موقع الجمعية الأمريكية لداء السكري ” يتفق الخبراء على إمكانية استبدالك لكميات صغيرة من السكر محل الأطعمة الحاوية على الكربوهيدرات في طعامك”.
بدأ المد بالتحول في عام 2004 عندما أظهر الدكتور جورج براي في مركز أبحاث بينيجتون للطب الحيوي في جامعة لويزيانا ان الإرتفاع في معدلات السمنة يعكس الإستخدام المتنامي لقطر الذرة عالي الفركتوز في النظام الغذائي الأمريكي. تنامى الشعور العام بإن قطر الذرة عالي الفركتوز قد أصبح قضية صحية أساسية.
اشار اخرون إلى إرتفاع معدل استهلاك قطر الذرة عالي الفركتوز بالتزامن مع إنخفاض معدل إستخدام السكروز . أظهر إرتفاع معدل السمنة الزيادة في الإستهلاك الكلي للفركتوز سواء جاء الفركتوز من السكروز أو من قطر الذرة.
لم يكن الدكتور لستيج أول طبيب يحذر من مخاطر تناول الكثير من السكر. ففي عام 1957 حذر الدكتور البريطاني اللامع جون يدكين المختص بالتغذية كل ذي سمع من ذلك الخطر.
ادرك يدكين ان إرتفاع معدلات أمراض القلب كانت مرتبطة بالسكر إلى حد ما ولكن العالم كان قد إختار عوضاً عن ذلك إتباع مشورة الدكتور انسيل كي وإتهامه للدهون الغذائية بدلاً من السكر.
كان خطر السكر الأساسي – بجانب زيادة السعرات الحرارية- تسوس الأسنان..
كتب الدكتور يدكين بعد ان اعتزل الطب الأكاديمي كتاباً حمل عنواناً ثاقباً ومرعباً ” نقي وأبيض وقاتل” ولكن تحذيراته ذهبت أدراج الرياح.
في عام 1977 نبهت التوجيهات الغذائية الأمريكية الشعب من مخاطر الإفراط في تناول السكر الغذائي ولكن تلك الرسالة ضاعت في خضم هيستريا معاداة الدهون التي تلت ذلك.
كانت الدهون الغذائية هي العدو الأول وتلاشى الإهتمام بالسكر الفائض كأشعة شمس ذاوية.
إرتفع استهلاك السكر بشكل مطرد ما بين 1977 إلى 2000 بالتوازي مع إرتفاع معدلات السمنة. وبعد عشر سنوات لحق بها داء السكري النوع الثاني بعناد مثل شقيق صغير مزعج.
لا تقوى السمنة لوحدها على تفسير سبب الإرتفاع الكلي بمعدل داء السكري. لا يظهر الكثير من البدناء أي دليل على مقاومة الأنسولين أو داء السكري أو تناذر(متلازمة) استقلابي.
ومن جانب آخر هناك مرضى داء السكري النوع الثاني نحيلي الجسم وهذا جلي على المستوى الوطني أيضاً.
تشكو بعض الدول ذات معدلات السمنة المتدنية من إرتفاع معدلات داء السكري والعكس صحيح. ظلت معدلات السمنة في سيريلانكا بحدود 0.1 % ما بين 2000-2010 بينما ارتفعت معدلات داء السكري من 3% إلى 11% .
وخلال ذات الفترة إرتفعت معدلات السمنة في نيوزيلندة من 23% إلى 34% بينما إنخفض معدل داء السكري من 8% إلى 5%. وقد يفسر إستهلاك السكر جل هذا التناقض.
ما الذي يجعل السكر ساماً؟
ليس وضعه ككربوهيدرات مكرر إلى حد كبير.
إرتكز النظام الغذائي الصيني في بداية 1990 كما وثقت دراسة انترماب INTERMAP بشكل أساسي على الأرز الأبيض ولذلك كان مرتفع الكربوهيدرات المكررة.
وهذا يقدم مفارقة واضحة لإنخفاض معدلات السمنة وداء السكري النوع الثاني لديهم.
كانت النقطة الحاسمة الوحيدة هي ان النظام الغذائي الصيني في التسعينات كان منخفض السكر إلى حد كبير.
تتألف معظم الكربوهيدرات المكررة مثل الأرز الأبيض من سلاسل طويلة من الجلوكوز بينما يحتوي سكر المائدة على أجزاء متساوية من الجلوكوز والفركتوز.
مع تنامي استهلاك السكر في الصين أواخر التسعينات قفزت معدلات داء السكري ونظراً لتلازم ذلك مع استهلاكهم المرتفع أصلاً من الكربوهيدرات أصبحت تلك وصفة لكارثة ” داء سكري”.
حدثت قصة أخرى أقل حدة في الولايات المتحدة.
تحول إستهلاك الكربوهيدرات بشكل تدريجي من الحبوب إلى السكاكر في شكل قطر الذرة وتلا ذلك الإرتفاع المتزامن لحدوث داء السكري النوع الثاني.
لدى مراجعة بيانات من 175 دولة ارتبط استهلاك السكر بشكل وثيق بداء السكري وإن مستقلاً عن السمنة.
مثلاً يرتفع استهلاك السكر في اسيا بمعدل 5% كل عام بينما استقر او إنخفض في أمريكا الشمالية. وكانت النتيجة “تسونامي ” داء سكري صنع في الصين.
عانى 11.6% من البالغين في الصين عام 2013 من داء السكري النوع الثاني متجاوزاً المتصدر السابق : الولايات المتحدة بمعدل 11.3%.
ومنذ عام 2007 شخص داء السكري حديثاً لدى 22 مليون صيني وهو رقم يقارب تعداد سكان استراليا.
ومما يثير الصدمة ان 1% فقط من الصينين عانى من داء السكري النوع الثاني عام 1980. ففي خلال جيل واحد ارتفع معدل داء السكري بنسبة مرعبة 1160%.
يبدو ان السكر أكثر من أي كربوهيدرات مكررة سبباً للسمنة وأدى بالتحديد للإصابة بداء السكري النوع الثاني ومع ذلك شخص الصينيون بالمرض رغم ان مؤشر كتلة الجسم لديهم كان 23.7 فقط والذي يعتبر نسبة ضمن المجال المثالي وبالمقارنة فإن معدل مؤشر كتلة الجسم لدى مريض داء السكري الأمريكي التقليدي توازي 28.7 التي تقع ضمن مجموعة الوزن الزائد.
يرتفع معدل داء السكري 1.1% مقابل كل 150 سعرة حرارية إضافية للشخص في اليوم من استهلاك السكر.
لا يظهر أي نوع آخر من الطعام علاقة مهمة بداء السكري. يرتبط داء السكري بالسكر وليس بالمصادر الأخرى للسعرات الحرارية.
توجد بيانات مماثلة في المشروبات المحلاة بالسكر وهي أكبر مصدر للسكر في النظام الغذائي الأمريكي. تضاعف الإستهلاك الفردي ما بين أواخر السبعينات من القرن الماضي وعام 2006 من المشروبات المحلاة إلى 141.7 كيلوكالوري في اليوم. ورفعت كل زجاجة 12 أونصة من المشروبات المحلاة بالسكر خطر داء السكري بمعدل 25%. كما ان خطر المتلازمة الإستقلابية زاد بمعدل 20%.
يظهر الإستهلاك المرتفع لفركتوز قطر الذرة شبه المطابق كيميائياً للسكر ترابطاً بداء السكري.
عانت الدول التي تستخدم كميات كبيرة من قطر الذرة عالي الفركتوز ارتفاعاً بنسبة 20% في انتشار داء السكري بالمقارنة مع الدول التي لم تفعل ذلك. والولايات المتحدة هي البطل المطلق بلا منازع بإستهلاك الفرد من قطر الذرة عالي الفركتوزالذي يقارب 55 باوند سنوياً(25 كغ تقريباً).
ما الذي يميز السكر عن الكربوهيدرات الأخرى؟
ما هو الرابط الشائع بالمرض؟
إنه الفركتوز.
الفركتوز Fructose
يعتبرالطبيب السويسري-الألماني باراسيلسوس
Paracelsus 1493-1541) ) مؤسس علم السموم الحديث وقد لخص أحد مفاهيمه الأساسية بعبارة مفيدة ” الجرعة هي التي تصنع السم”
قد يصبح أي شئ وإن كان نافعاً في الحالة العادية ضاراً إذا تجاوز الحد.
قد يصبح الأوكسجين ساماً بمستويات مرتفعة . وحتى الماء يصبح ساماً إذا إرتفعت مستوياته. والفركتوز ليس إستثناءً.
ساهم استهلاك الفواكه الطبيعية بكميات صغيرة من الفركتوز في نظامنا الغذائي بحدود 15 إلى 20 غرام في اليوم قبل عام 1900. ومع الحرب العالمية الثانية سمح التوافر المتزايد للسكر بزيادة استهلاك الفرد إلى 24 غرام في اليوم ثم إرتفع إلى 37 غرام في اليوم بحلول عام 1977.
سمح تطوير قطر الذرة عالي الفركتوز برفع الإستهلاك إلى 55 غرام يومياً في عام 1994 إي ما يعادل 10% من السعرات الحرارية ووصل الإستهلاك أوجه عام 2000 بمعدل 9% من السعرات الحرارية.
ففي غضون 100 عام إرتفع استهلاك الفركتوز بمعدل خمسة أضعاف.
وكان الشباب بالتحديد أكثر المستهلكين للفركتوزحيث تناولوا ما وصل إلى 25% من مجموع سعراتهم الحرارية كسكاكر مضافة بمعدل 72.8 غرام في اليوم. ويعتقد ان الأمريكان استهلكوا 156 باوند(70.7 كغ ) للشخص من المحليات المرتكزة على الفركتوز سنوياً.
الجرعة هي التي تصنع السم.
طور قطر الذرة عالي الفركتوز في الستينات (1960) كمكافئ سكري سائل للسكر . استخرج السكروز من قصب السكر والشوندر السكري . لم يكن باهظ الكلفة ولكنه لم يكن رخيصاً.
يمكن تصنيع قطر الذرة عالي الفركتوز من نهر الذرة الصفراء الرخيصة التي كانت تفيض في الغرب الأمريكي الأوسط – وذلك هو العامل المحدد لتفضيل قطر الذرة عالي الفركتوز. لقد كان رخيصاً.
وسرعان ما وجد قطر الذرة عالي الفركتوز طريقه إلى كل طعام مصنع يمكن تخيله من صلصلة البيتزا وأنواع الحساء والخبز والكعك والبسكويت والكتشب والصلصات كلها إحتوت على قطر الذرة عالي الفركتوز. لقد كان رخيصاً واهتمت شركات الغذاء الكبرى بذلك أكثر من إهتمامها بأي شئ آخر في العالم. وتسابقت لاستخدام قطر الذرة في كل فرصة سانحة لتحل محل السكروز نظراً لفارق الكلفة.
أساسيات السكر Sugar basics
يعتبر الجلوكوز السكر الأساسي الموجود في الدم . ويستخدم تعبير ” سكر الدم” و “جلوكوز الدم” بالتبادل. يمكن استخدام الجلوكوز من قبل أي خلية في الجسم وينتقل بحرية عبر الجسم. وهو المصدر المفضل للطاقة في الدماغ وتستورد العضلات الجلوكوز من الدم بشغف من أجل رفع سريع للطاقة . كما ان خلايا محددة مثل خلايا الدم الحمراء لا تستطيع استخدام شئ سوى الجلوكوز من أجل الطاقة .
يمكن تخزين الجلوكوز في الجسم بأشكال مختلفة مثل الجليكوجين في الكبد . وإذا تناقصت مخزونات الجلوكوز يستطيع الكبد تصنيع جلوكوز جديد عبر عملية إعادة تخليق السكر من جديد gluconeogenesis.
أما الفركتوز فهو السكر الموجود بشكل طبيعي في الفواكه والكربوهيدرات الحلوة المذاق في حالتها الطبيعية.
يستطيع الكبد وحده إستقلاب الفركتوز كما انه لا يتنقل بحرية في الدم.
لا يستطيع الدماغ والعضلات ومعظم النسج الأخرى استخدام الفركتوز مباشرة كما ان تناول الفركتوز لا يغير ظاهرياً مستوى سكر الدم لإنها جزيئات سكر مختلفة.
يتألف سكر المائدة المعروف بالسكروز من جزئ وحيد من الجلوكوز مرتبط بجزئ وحيد من الفركتوز مما يجعله 50% جلوكوز و 50% فركتوز .
بينما يتألف قطر الذرةعالي الفركتوز من الناحية الكيميائية من 55% فركتوز و 45% جلوكوز . وعادة لا يستهلك الفركتوز النقي بشكل مباشر مع انه قد يتواجد كمكون في بعض الأغذية المصنعة.
أما الكربوهيدرات فهي سكاكر مفردة أو سلاسل من السكاكر المرتبطة بعضها ببعض. فالجلوكوز والفركتوز هي أمثلة على كربوهيدرات مفردة السكر.
والسكروز هو كربوهيدرات ثنائي السلسلة لإنه يحتوي على جزئ من الجلوكوز وجزئ من الفركتوز.
يتألف النشاء وهو الكربوهيدرات الأساسي في البطاطا والقمح والذرة والأرز من سلاسل طويلة من الجلوكوز . وبما أنه من صنع النبات فإنه يعمل غالباً كمخزن للطاقة وأحياناً يخزن تحت الأرض كما في الخضار الدرنية وأحياناً فوق الأرض كما في الذرة والقمح . يتألف النشاء وزنياً من 70% اميلوبيكتين amylopectin و 30% اميلوز amylose . تربط الحيوانات والبشر الجلوكوز في سلاسل من أجل التخزين على شكل جليكوجين.
تتفكك سلاسل الجلوكوز في النشويات بسرعة عند الأكل إلى جزيئات جلوكوز مفردة ويتم إمتصاصها من قبل الأمعاء.
يقيس مؤشر السكرية Glycemic Index مقدرة رفع سكر الدم للعديد من الكربوهيدرات.
يسبب الجلوكوز النقي اعلى ارتفاع في سكر الدم ولذا منح القيمة العظمى 100. يتم قياس كافة الأطعمة الأخرى وفق هذه “المسطرة”
يمتلك الخبز المصنوع من الدقيق الأبيض مؤشر سكري مرتفع للغاية لإن النشاء المكرر من القمح يهضم بسرعة إلى جلوكوز.
لا ترفع السكاكر الغذائية الأخرى مثل الفركتوز أو اللاكتوز (السكر الموجود في الحليب) مستويات سكر الدم بشكل كبير وبالتالي تكون ذات قيم منخفضة على المؤشر السكري.
وبما ان السكروز نصفه جلوكوز ونصفه فركتوز فإنه يقع في المنتصف على المؤشر السكري. يرفع ” طرف” الجلوكوز في السكروز مستوى سكر الدم بشكل ملحوظ.
ساد الظن لسنوات عديدة بأن الفركتوز الذي لا يرفع سكر وأنسولين الدم هو أكثر سلامة من المحليات الأخرى. بدا ان محلي موجود بشكل طبيعي في الفواكه ولا يرفع المؤشر السكري هو خيار صحي.
ولكنه كان ذا جانب مظلم-جانباً خفياً توارى عن الأنظار لعدة عقود.
لا يمكن رؤية سمية الفركتوز من خلال النظر إلى مستويات سكر الدم ولكن عبرالنظر إلى التراكم البطئ للدهون في الكبد. وكان المفتاح هو الكبد الدهنية موضوع المقالة القادمة.
بقلم الدكتور جاسون فنج
استشاري أمراض الكلية
تورنتو. كندا
ترجمة : ابراهيم عبدالله العلو
By: Dr. Jason Fung
Nephrologist
Toronto. Canada.
June 7.2017.