وحدة التجارب على البشر ... بقلم محمد حجاج 2

“كُنت خائفًا في أول مرة. المرة الثانية كانت أسهل بكثير، وبعد المرة الثالثة كُنت على استعداد تام لفعلها.”

كان “قسم منع الأوبئة وتنقية المياة” بجيش كانتو التابع للجيش الإمبراطوري الياباني يعمل بجد في بينج فانج في الصين من عام 1935 إلى عام 1945، وإن لم يكن لمنع الأوبئة، ولا لتنقية المياة. امتلك هذا القسم اسمًا آخر: الوحدة 731، وتخصصًا آخر كذلك: وحدة أبحاث للتجارب البشرية وتطوير الأسلحة البيولوجية والكيميائية.

ما بين 3000 إلى 21000 رجل، إمرأة وطفل ماتوا خلال التجارب البشرية التي أُجريت خلال فترة عمل الوحدة، 70% منهم صينيون و 30% من الروس. كان أغلب التجارب يتضمن حقن العينات البشرية بأمراض مختلفة ثم القيام بتشريحهم على الحي بدون مخدر. التجارب أيضًا تضمنت بتر الأطراف لدراسة تأثير فقدان الدم على الجسم (وفي بعض الأحيان كان يتم إعادة تركيبها بصورة معكوسة)، تجميد أعضاء معينة، إزالة أعضاء لدراسة تأثير الأمراض على أجزاء الجسم وفهم عمله (أجزاء من المُخ، الكبد، ، الرئتان، وفي بعض العينات أزيلت المعدة وتم توصيل المرئ بالأمعاء مُباشرة).. الخ. مرة أخرى لا تخدير هُنا، والتشريح يتم على الحي. التسجيل الوحيد لتجارب من نفس هذه النوعية (أو أسوأ) كان في ألمانيا النازية.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تبوأ الكثير من الباحثين المتورطين في هذه الوحدة مناصب كبيرة في السياسة والأكاديميا والأعمال، بعضهم تم القبض عليه من قبل السوفيت وتمت محاكمتهم بتهم جرائم الحرب، ولكن مُعظمهم ظل تحت سيطرة الإحتلال الأمريكي، والذي لم يقدمهم للمحاكمة بتهمة جرائم الحرب لسبب بسيط: أرادوا تضمين المعلومات التي اكتسبها اليابانيون في مجال الأسلحة البيولوجية في برنامج الأسلحة البيولوجية الأمريكي.

“كِن يواسا” كان من ضمن الـ 1000 فرد الذين شاركوا بصورة مُباشرة في عمليات التشريح على الحي. كان لا يزال شابًا في أواخر العشرينيات عندما قام بأول عملية تشريح بشري على الحي بعد 6 أسابيع فقط من بداية خدمته العسكرية في الصين. من الطبيعي أن يشعر بالخوف. ولكن كما أخبرنا، بعد المرة الثالثة أصبح الأمر عادي. لم يدرك فظاعة ما كان يفعله إلا بعد إنتهاء الحرب بفترة طويلة، لذا فلقد قضى ما تبقى من حياته في التكلم علانية على تفاصيل الجرائم التي قام بفعلها الأطباء – وهو منهم – رُبما كنوع من إراحة الضمير، حتى توفي في 2010.
_______________________________

تتساءل: ما الذي يعنيه بحق الجحيم أنه “لم يُدرك فظاعة ما كان يفعله”؟ أي بشري هذا الذي يتعامل مع بشري مثله كضفدعة؟

وهذا هو السبب الرئيسي في كتابة هذا المقال. لا شيء يُشكل وعي الإنسان ويضع له مقاييس الصواب والخطأ أكثر من بيئته. الإنسان كائن قابل للمسخ بسهولة شديدة، فقط كُل ما يحتاجه أن يرى مجموعة من الكائنات التي تُشبهة تقوم بفعل أي شيء، أي شيء، ليقتنع في داخله أنه لا بأس بفعل ذلك.

قد تعتقد أنه كان يعاني “صراعًا” داخليًا أو ما شابه، ولكن هذا غير صحيح. تأثير البيئة “يطمس” كل شيء؛ ليس المُعتقد وحسب (خاصة وإن كان ضعيفًا أصلًا) ولكن حتى مقتضيات الهوية البشرية ذاتها. داخل دهاليز الوحدة 731 كان الجميع يفعلون ذلك أمامه. بيئته أوحت إليه فكرة أنه “يقدم خدمات جليلة لوطنه في الحرب”. حتى عندما كان زملاؤه يتحدثون عن العينات البشرية، كان من الشائع السؤال: “كم لوحًا سقط اليوم؟”. هو فعليًا لم يكن يعتبرهم بشرًا، مُجرد ألواح يبني بها جسرًا لتعبر عليها بلاده للنصر. فقط عندما اختفى كُل ذلك من أمام عينيه بنهاية الحرب، انقشع الظلام فجأة، فأبصر الدماء التي في يديه.

هل ترى هذه العقلية؟ قس عليها أيًا مما تراه الآن وتتعجب منه. “كيف يُمكنهم قتل ذويهم بدم بارد؟”، “كيف يُمكنهم الظلم؟”.. قبل أن تُكمل، اسأل نفسك كيف تبدو البيئة التي ينغمسون فيها يوميًا؟ لمن يستمعون وماذا يستمعون؟

لا تضع أملًا في أن الإنسان كائن “نقي بالفطرة”وسيستيقظ يومًا ما بمفرده. الإنسان كائن يميل للشر بالفطرة، ولهذا السبب وُجد الدين للتقويم. أزيدك من الشعر بيتًا؟ الدين وحده ليس كافيًا لكبح نزعة الشر المتأصلة في الإنسان إن كانت بيئته شديدة السوء من حوله، ولذلك تحديدًا أُمرنا بترك أرض السوء، والإبتعاد عن صديق السوء، وعن مجالس السوء.. الخ من الأشياء التي تتشكل منها “البيئة” التي تتعامل معها.

أنت أحمق إن كُنت تعتقد أنك “قوي ولن تتأثر” بأي شيء. ستتغير حتى دون أن تدرك ذلك. الإنسان قطعة صلصال في يد بيئته، إن كانت خيرًا فسيتحرك أسهل بكثير تجاه الخير، وإن كانت تسكنها لعنة، فستنتقل إليه كذلك.
راقب الاختيارات التي تكون منها “بيئتك” (مجالس، أصدقاء، أماكن، أفكار..) وحاول أن تنقيها قدر الإمكان من الشوائب. إن وجدت أن الأمر ميئوس منه فغادر، وإن لم تستطع فعليك بالعزلة.
_______________________________
مصادر:
الوحدة 731: https://goo.gl/z9Q9qN
ألمانيا النازية والتجارب البشرية: https://goo.gl/f1kPZx
_______________________________

كتبه : م. محمد حجاج


اكتشاف المزيد من مجلة رؤى

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

ردان على “وحدة التجارب على البشر … بقلم محمد حجاج”

  1. كلام الكاتب يوحي في نهاية المقال أن الإنسان مسير من قبل بيئته، و هو ما يخالف العقل و الدين، إذ لو كان مسيرا من قبل بيئته لما حاسبه الله في الآخرة على أفعاله.

    1. لا شك أن للبيئة أثر كبير و هذا هو ما ذكره النبي الكريم في أكثر من موضع "المرء على دين خليله" و حديث قاتل المائة نفس حينما أمر أن يترك الأرض التي كان فيها لأن قوما قوم سوء و غيرها من الأحاديث التي تدعم أثر البيئة على الإنسان .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثمانية عشر + 14 =

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

اكتشاف المزيد من مجلة رؤى

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading